إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الثقلين الجن والإنس كافة فنصح وبلّغ ووجه وأرشد وأبلغ وللناس أسمع وله المقام الأرفع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى هداية للضلاّل والجُهال ، وصلاحٌ للخلائق في كل حال
( ياأيها الـذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ماقـدمت لغد واتقــوا الله إن خـبيرٌ بما تعملون) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل مُحدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين وطريق عباد الله المفلحين والصادقين الصابرين ومن أراد الله رفعته في الدنيا والآخرة وكل قول يدعو لسبيل الله هو أحسن قول وأفضل حديث في الناس وخير مايتكلم به العبد يقول الحقّ تبارك وتقدّس :( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )
وأمر الله نبيه بالدعوة إلى سبيله وأن تكون الدعوة عن علم ٍوبصيرة فقال : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
وأمر الله نبيه أن يدعو هو وكل من يمارس الدعوة إلى الله فأمرهم أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة فقال : ( أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) والحكمة من معانيها العلم والإصابة في القول والعمل وهي لاتأتي إلا عن طريق العلم ، قال سبحانه : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا وما يذّكرُ إلا أولوا الألباب ) فبدأ بالحكمة قبل الموعظة ، وكل ذلك يدلّ على ضرورة الدعوة بعد تعلم العلم الشرعي إن تمكن الإنسان من ذلك لكي يُفيد ويستفيد ويرفع الجهل عن كافة المهتدين فيتهدوا بقوله لسبيل رب العالمين ، فاللازم والواجب على من يمارس الدعوة أن يدعو على علم وبصيرة أو على أقل تقدير أن يستعين إذا لم يعلم بأهل العلم وأهل الذكر والحكمة والفقهاء من هذه الأمة الأمناء على الوحيين الذين لايحل لهم أن يكتموا علماً إذا علموا وسُئلوا ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : ( من علم علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نارٍ يوم القيامة ) .
عباد الله ومما أورده الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وإيانا جميعاً في رسالته : " المسائل الأربع " قال : " اعلم رحمك الله أنه يجب عليك تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم وهي معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ، الثانية : العمل به - أي بالعلم - الثالثة : الدعوة إليه ، الرابعة : الصبر على الأذى فيه " . فانظر كيف بدأ بالعلم - رحمنا الله وإياه - فالذي يعلم يقوده ذلك إلى العمل ومن ثمّ الدعوة إلى ذلك العلم الذي علمه وهو معرفة الله وخشيته ، وانظر كيف يكون قدوة من لايعمل بما يعلم فكيف يأخذ منه الناس هذا العلم وكيف يهتدي على يديه الكثير وهو أول من يُخالف ذلك المنهج الذي يدعو إليه ، فلا بد من العلم المصاحب للعمل وأن يدعو إلى ذلك المنهج القويم - وهو دين الإسلام بالجملة - وأن يصبر على الأذى فيه لتتحقق النتائج ويزداد الأجر والمثوبة ويرقى الداعية في درجات الآخرة وينال المُراد وإلا فقد الثمرة وصار سعيُه بلا ثمرة وبلا نتائج ومكاسب تضاف لرصيده في الدنيا والآخرة ولقد أحسن من قال :
الصبر مما يستزاد به الرُتب * وفاقده يجني الخسارة والتعب
وكن على يقين أن الناس لن يأخذوا منك حتى يمتحنوا صبرك عليهم وإمهالك لهم وعطاءك لهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء وكما قيل :
فكم صابرٌ نال العُلا بمراده * وحاز رفيع الحال عقبى اجتهاده
وكل تلك المسائل الأربع هي مبنية على قول الله تعالى : ( فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) وقوله سبحانه :
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) وقوله تعالى : ( فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . . ) وقوله : ( فاصبر على ما يقولون وشبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . . ) فكل جماعة تخرج في سبيل الدعوة إلى الله عموماً يجب أن تسلك هذا المسلك وتنتهج هذا المنهج القائم على الكتاب والسنة .
عباد الله : قد ظهر في الآونة الأخيرة نشاطٌ ملحوظ لجماعة التبيلغ وهم ممن يدعو إلى الله ولكن ينقصُهم العلم الشرعي الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وقد نبّه كثير من أهل العلم على ذلك ومن هذه الملاحظات عدّة أمور منها :
* عدم تبني بعضهم عقيدة أهل السنة والجماعة وهذا أمر خطير يجّر إلى انحراف وضلال ، وإن كانت هذه الملاحظة في بعض الجماعات في الخارج فإن منهم من يميّع عقيدة الولاء والبراء أو لايُعيرها اهتماماً ويتحدث عنها ومنهم أيضاً من لايهتمّ بالتحذير من الطرق الموصلة للشرك وهذا جليّ واضح لمن فتّش عنه .
* ومنها تأويلهم للقرآن وتفسيرهم بغير مراد الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام وفي ذلك قلبٌ للمفاهيم وترويج للباطل .
* استدلالهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ونشرها في المجالس والملتقيات .
* تفضيل البعض منهم الخروج للدعوة على الجهاد في سبيل الله ودفع الأعداء وكذلك تفضيله على الخروج في طلب العلم .
* جرأة البعض منهم على فتوى بغير علم من باب الإجتهاد فتجد أنه يتحدث في التفسير والحديث والأحكام الشرعية بأعوج من القول وبكلام بعيد عن فهم السلف الصالح بالجملة .
* اهتمامهم بالرقائق والمواعظ على حساب بيان الأحكام الشرعية المهمة وتصحيح العبادات وممن سئل عن جماعة التبليغ عفا الله عنّا وعنهم جميعاً الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وإيانا أجمعين فأجاب بقوله : " جماعة التبليغ لهم نشاط طيب في أماكن كثيرة في الباكستان وفي أفريقيا وفي أوغندا وفي غيرها لهم نشاطٌ طيب وقد نفع الله بهم كثيراً وأسلم على أيديهم كثيرٌ من الناس وصلُح على أيديهم كثير والتزم بالحقّ ، لكنهم ليس عندهم نشاطٌ مطلوب في بيان العقيدة السلفية وما يتعلّق بدعوة القبور والإستغاثة بالأموات ، نشاطهم في مواد معلومة اصطلحوا عليها فإذا تيسّر أن يكون معهم من أهل العلم . . من أهل السنة . . من أهل البصيرة بالعقيدة يكون أكمل وأنفع حتى يجتمع الخيران : الخير الذي يتعلّق بالعقيدة وبيانُها وبيان ضدّها ، والخير الذي يتعلّق بدعوة الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإلتزام بالإسلام والحذر مما يُخالف الإسلام ، فهم عندهم بعض الجهل وعندهم عدم نشاط في الكلام في العقيدة فيجب على أهل البصيرة من أهل العلم أن يتعاونوا معهم حتى يُبصّرهم في هذا الأمر وحتى يتمّ النقص وحتّى يزول الشيء الذي كُره منهم حتى تزول المسألة المُنتقدة عليهم لإعراضهم عن مايتعلق بالعقيدة " .
ثم قال رحمه الله : " فأنا أنصح من يستطيع من أهل العلم والبصيرة بعقيدة أهل السُنّة والجماعة أن يتعاون معهم حتى تكون الدعوة مُشتملة على كل مطلوب حتى يكمُل النقص ويحصل بذلك الخير للجميع من جهة العقيدة ومن جهة الأخلاق الإسلامية ومن جهة الأحكام فيما يتعلّق بالعلم والعمل والتفقّه في الدين وغير هذا من وجوه الخير نسأل الله أن ينفع بالجميع "
وسئل الشيخ صالح اللحيدان عنهم في أحد لقاءاته فقال : " كان في عهد الملك سعود جاءت رسالةٌ من مجموعة كبيرة مُوقّع عليها من الهند وباكستان يطالبون بالبناء على القبور وكان فيهم جُملة من جماعة التبليغ منهم من أعرفه شخصيّاً أنه من جماعة التبليغ " وهذا دليل على عدم مبالاتهم بالوسائل الموصلة للشرك عموماً ، وذكر عفا الله عنا وعنه أنه يعرفهم من عام الأربع والسبعين والمائة والألف وأن الشيخ ابن إبراهيم مفتي الديار في ذلك الوقت استُفتي في شأنهم ومطالبهم وخصوصاً فيما يتعلّق بالبناء على القبور فألف رسالة جليلة اسمها : " شفاء الصدور في تحريم البناء على القبور " .
وممن أفتى فيهم بل وحذّر من الخروج معهم إلا بعلم العلامة الألباني رحمه الله فقال : " جماعة التبيلغ لاتقوم على كتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلفنا الصالح وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الخروج معهم " .
فاللهم بصّرنا بديننا وعقيدتنا وأصلح قادتنا ودعاتنا وأفراد أمتنا وألف بين قلوب المسلمين واجمعهم على الحقّ والدين ياقوي يامتين وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
================= الخطبة الثانية =================
الحمدلله خالق الإنسان معلّم البيان ومنزل الفرقان والصلاة والسلام على رسولنا من نسل عدنان وعلى آله وصحبه أولي الفضل والإحسان وعلينا معهم ومن تبعهم واقتفى أثرهم مادامت الأزمان أما بعد :
فاتقوا الله - ياعباد الله - واعلموا بأن التقوى سبيلٌ للعلم والمعرفة والخشية والإنابة وتوفيق الله تعالى ، ومن تأمل قول الله تعالى : ( واتقوا الله ويُعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) عرف أن التقوى بحدّ ذاته علمٌ ومعرفة وكلما كمُل واستتم حصل العلم والخشية وتصحيح المسار الخاطئ له ولغيره من الناس ، وبذلك يكون قدوة حسنة فتصلُح على يديه أمورٌ لايظن صلاحُها قبل ذلك ، ويجعل الله له فراسة وتمييزاً بين الحق والباطل والهدى والضلال والحرام والحلال والمُحكم والمتشابه عموماً وحقيقة ذلك قول الله جل ذكره وعلا قدرُه ( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكُم فُرقاناً ويُكفر عنكم سيئاتكم ويغفرْ لكم والله ذو الفضل العظيم ) فانظر كيف يهبُ الله المُتّقي نوراً يميّز فيه بين الحقّ والباطل وجملة المتضادات التي ذكرنا ، وكيف صيّر الله التقوى مشعلاً وسراجاً وهاجاً في قلب كل مؤمن ٍ فطنٍ ، ومن يرجع لفراسة الصحابة وكثير من التابعين يجد من تعرّفهم للحق بفراسة أوتوها شيئاً عجبا ، ولهذا ورد عند ابن جرير في تفسيره ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسّم " وهذا الحديث حسن اسناده كثيرٌ من أهل العلم ، وقد روي عن فراسة المؤمن أحاديث لايصح بعضها ويكفينا في ذلك الآية السابقة ، ومما جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه - المجلدُ العشرون - وأصله حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشُبهات ، والعقل الكامل عند حلول الشهوات " والمقصود من ذلك كلّه هو التمييز بين الحق والباطل عند اشتباه الأمور وتداخل الحلال مع الحرام والتمييز بين الناس ممن إرادتُه الحق ومن إرادته الباطل ، وممّن يلتمس دينه من النور والهدى والوحيين ( الكتاب والسنة ) وممن يلتمس دينه من الأهواء ودس الشيطان ووسوته وتزيينه ، وكثير منهم لايُحسّون بذلك لأن المنكر اشتمل على قلبه واستولى على فؤاده في الواقع فزيّن له سوء عمله وهو ينظر إليه بأنه حسنٌ واعتيادي كحال من يتبيح البناء على القبور والطواف بها والإستغاثة بها الذي ورد بتحريمه النصوص الشرعية الواضحة ، فليحذر هؤلاء من قول الله تعالى : ( أفمن زُيّن له سوء عمله فرءاه حسناً فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليمٌ بما يصنعون ) ، وقال جل جلاله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) فانظر كيف حكم ربنا بالإشراك على من أطاع غير الله في معصية الله ولم يُفصل في ذلك ، وهذا يستوجب من المسلم أن يُغيّر من حاله ويضبط أفعاله كلّها بضوابط ومفاهيم الشرع الحنيف ، فالتغيير الأولي يبدأ من القلب والميزان هو شريعة الله المحكمة والعقل غذاؤه العلم لئلا ينجر صاحبه للضلالة والأعوان هم الصحبة الصالحة الناصحة والله هو المُستعان وعليه التُكلان في حال وآن ، فاللهم رحمة تهدي بها قلوبنا ونوراً ينير بصائرنا وعقولنا وعزاً تُعز به أوليائك وخذلاناً تخذل به أعدائك ياقريب يامجيب ، هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية . . .
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى هداية للضلاّل والجُهال ، وصلاحٌ للخلائق في كل حال
( ياأيها الـذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ماقـدمت لغد واتقــوا الله إن خـبيرٌ بما تعملون) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل مُحدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين وطريق عباد الله المفلحين والصادقين الصابرين ومن أراد الله رفعته في الدنيا والآخرة وكل قول يدعو لسبيل الله هو أحسن قول وأفضل حديث في الناس وخير مايتكلم به العبد يقول الحقّ تبارك وتقدّس :( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )
وأمر الله نبيه بالدعوة إلى سبيله وأن تكون الدعوة عن علم ٍوبصيرة فقال : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
وأمر الله نبيه أن يدعو هو وكل من يمارس الدعوة إلى الله فأمرهم أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة فقال : ( أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) والحكمة من معانيها العلم والإصابة في القول والعمل وهي لاتأتي إلا عن طريق العلم ، قال سبحانه : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا وما يذّكرُ إلا أولوا الألباب ) فبدأ بالحكمة قبل الموعظة ، وكل ذلك يدلّ على ضرورة الدعوة بعد تعلم العلم الشرعي إن تمكن الإنسان من ذلك لكي يُفيد ويستفيد ويرفع الجهل عن كافة المهتدين فيتهدوا بقوله لسبيل رب العالمين ، فاللازم والواجب على من يمارس الدعوة أن يدعو على علم وبصيرة أو على أقل تقدير أن يستعين إذا لم يعلم بأهل العلم وأهل الذكر والحكمة والفقهاء من هذه الأمة الأمناء على الوحيين الذين لايحل لهم أن يكتموا علماً إذا علموا وسُئلوا ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : ( من علم علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نارٍ يوم القيامة ) .
عباد الله ومما أورده الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وإيانا جميعاً في رسالته : " المسائل الأربع " قال : " اعلم رحمك الله أنه يجب عليك تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم وهي معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ، الثانية : العمل به - أي بالعلم - الثالثة : الدعوة إليه ، الرابعة : الصبر على الأذى فيه " . فانظر كيف بدأ بالعلم - رحمنا الله وإياه - فالذي يعلم يقوده ذلك إلى العمل ومن ثمّ الدعوة إلى ذلك العلم الذي علمه وهو معرفة الله وخشيته ، وانظر كيف يكون قدوة من لايعمل بما يعلم فكيف يأخذ منه الناس هذا العلم وكيف يهتدي على يديه الكثير وهو أول من يُخالف ذلك المنهج الذي يدعو إليه ، فلا بد من العلم المصاحب للعمل وأن يدعو إلى ذلك المنهج القويم - وهو دين الإسلام بالجملة - وأن يصبر على الأذى فيه لتتحقق النتائج ويزداد الأجر والمثوبة ويرقى الداعية في درجات الآخرة وينال المُراد وإلا فقد الثمرة وصار سعيُه بلا ثمرة وبلا نتائج ومكاسب تضاف لرصيده في الدنيا والآخرة ولقد أحسن من قال :
الصبر مما يستزاد به الرُتب * وفاقده يجني الخسارة والتعب
وكن على يقين أن الناس لن يأخذوا منك حتى يمتحنوا صبرك عليهم وإمهالك لهم وعطاءك لهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء وكما قيل :
فكم صابرٌ نال العُلا بمراده * وحاز رفيع الحال عقبى اجتهاده
وكل تلك المسائل الأربع هي مبنية على قول الله تعالى : ( فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) وقوله سبحانه :
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) وقوله تعالى : ( فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . . ) وقوله : ( فاصبر على ما يقولون وشبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . . ) فكل جماعة تخرج في سبيل الدعوة إلى الله عموماً يجب أن تسلك هذا المسلك وتنتهج هذا المنهج القائم على الكتاب والسنة .
عباد الله : قد ظهر في الآونة الأخيرة نشاطٌ ملحوظ لجماعة التبيلغ وهم ممن يدعو إلى الله ولكن ينقصُهم العلم الشرعي الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وقد نبّه كثير من أهل العلم على ذلك ومن هذه الملاحظات عدّة أمور منها :
* عدم تبني بعضهم عقيدة أهل السنة والجماعة وهذا أمر خطير يجّر إلى انحراف وضلال ، وإن كانت هذه الملاحظة في بعض الجماعات في الخارج فإن منهم من يميّع عقيدة الولاء والبراء أو لايُعيرها اهتماماً ويتحدث عنها ومنهم أيضاً من لايهتمّ بالتحذير من الطرق الموصلة للشرك وهذا جليّ واضح لمن فتّش عنه .
* ومنها تأويلهم للقرآن وتفسيرهم بغير مراد الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام وفي ذلك قلبٌ للمفاهيم وترويج للباطل .
* استدلالهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ونشرها في المجالس والملتقيات .
* تفضيل البعض منهم الخروج للدعوة على الجهاد في سبيل الله ودفع الأعداء وكذلك تفضيله على الخروج في طلب العلم .
* جرأة البعض منهم على فتوى بغير علم من باب الإجتهاد فتجد أنه يتحدث في التفسير والحديث والأحكام الشرعية بأعوج من القول وبكلام بعيد عن فهم السلف الصالح بالجملة .
* اهتمامهم بالرقائق والمواعظ على حساب بيان الأحكام الشرعية المهمة وتصحيح العبادات وممن سئل عن جماعة التبليغ عفا الله عنّا وعنهم جميعاً الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وإيانا أجمعين فأجاب بقوله : " جماعة التبليغ لهم نشاط طيب في أماكن كثيرة في الباكستان وفي أفريقيا وفي أوغندا وفي غيرها لهم نشاطٌ طيب وقد نفع الله بهم كثيراً وأسلم على أيديهم كثيرٌ من الناس وصلُح على أيديهم كثير والتزم بالحقّ ، لكنهم ليس عندهم نشاطٌ مطلوب في بيان العقيدة السلفية وما يتعلّق بدعوة القبور والإستغاثة بالأموات ، نشاطهم في مواد معلومة اصطلحوا عليها فإذا تيسّر أن يكون معهم من أهل العلم . . من أهل السنة . . من أهل البصيرة بالعقيدة يكون أكمل وأنفع حتى يجتمع الخيران : الخير الذي يتعلّق بالعقيدة وبيانُها وبيان ضدّها ، والخير الذي يتعلّق بدعوة الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإلتزام بالإسلام والحذر مما يُخالف الإسلام ، فهم عندهم بعض الجهل وعندهم عدم نشاط في الكلام في العقيدة فيجب على أهل البصيرة من أهل العلم أن يتعاونوا معهم حتى يُبصّرهم في هذا الأمر وحتى يتمّ النقص وحتّى يزول الشيء الذي كُره منهم حتى تزول المسألة المُنتقدة عليهم لإعراضهم عن مايتعلق بالعقيدة " .
ثم قال رحمه الله : " فأنا أنصح من يستطيع من أهل العلم والبصيرة بعقيدة أهل السُنّة والجماعة أن يتعاون معهم حتى تكون الدعوة مُشتملة على كل مطلوب حتى يكمُل النقص ويحصل بذلك الخير للجميع من جهة العقيدة ومن جهة الأخلاق الإسلامية ومن جهة الأحكام فيما يتعلّق بالعلم والعمل والتفقّه في الدين وغير هذا من وجوه الخير نسأل الله أن ينفع بالجميع "
وسئل الشيخ صالح اللحيدان عنهم في أحد لقاءاته فقال : " كان في عهد الملك سعود جاءت رسالةٌ من مجموعة كبيرة مُوقّع عليها من الهند وباكستان يطالبون بالبناء على القبور وكان فيهم جُملة من جماعة التبليغ منهم من أعرفه شخصيّاً أنه من جماعة التبليغ " وهذا دليل على عدم مبالاتهم بالوسائل الموصلة للشرك عموماً ، وذكر عفا الله عنا وعنه أنه يعرفهم من عام الأربع والسبعين والمائة والألف وأن الشيخ ابن إبراهيم مفتي الديار في ذلك الوقت استُفتي في شأنهم ومطالبهم وخصوصاً فيما يتعلّق بالبناء على القبور فألف رسالة جليلة اسمها : " شفاء الصدور في تحريم البناء على القبور " .
وممن أفتى فيهم بل وحذّر من الخروج معهم إلا بعلم العلامة الألباني رحمه الله فقال : " جماعة التبيلغ لاتقوم على كتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلفنا الصالح وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الخروج معهم " .
فاللهم بصّرنا بديننا وعقيدتنا وأصلح قادتنا ودعاتنا وأفراد أمتنا وألف بين قلوب المسلمين واجمعهم على الحقّ والدين ياقوي يامتين وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
================= الخطبة الثانية =================
الحمدلله خالق الإنسان معلّم البيان ومنزل الفرقان والصلاة والسلام على رسولنا من نسل عدنان وعلى آله وصحبه أولي الفضل والإحسان وعلينا معهم ومن تبعهم واقتفى أثرهم مادامت الأزمان أما بعد :
فاتقوا الله - ياعباد الله - واعلموا بأن التقوى سبيلٌ للعلم والمعرفة والخشية والإنابة وتوفيق الله تعالى ، ومن تأمل قول الله تعالى : ( واتقوا الله ويُعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) عرف أن التقوى بحدّ ذاته علمٌ ومعرفة وكلما كمُل واستتم حصل العلم والخشية وتصحيح المسار الخاطئ له ولغيره من الناس ، وبذلك يكون قدوة حسنة فتصلُح على يديه أمورٌ لايظن صلاحُها قبل ذلك ، ويجعل الله له فراسة وتمييزاً بين الحق والباطل والهدى والضلال والحرام والحلال والمُحكم والمتشابه عموماً وحقيقة ذلك قول الله جل ذكره وعلا قدرُه ( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكُم فُرقاناً ويُكفر عنكم سيئاتكم ويغفرْ لكم والله ذو الفضل العظيم ) فانظر كيف يهبُ الله المُتّقي نوراً يميّز فيه بين الحقّ والباطل وجملة المتضادات التي ذكرنا ، وكيف صيّر الله التقوى مشعلاً وسراجاً وهاجاً في قلب كل مؤمن ٍ فطنٍ ، ومن يرجع لفراسة الصحابة وكثير من التابعين يجد من تعرّفهم للحق بفراسة أوتوها شيئاً عجبا ، ولهذا ورد عند ابن جرير في تفسيره ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسّم " وهذا الحديث حسن اسناده كثيرٌ من أهل العلم ، وقد روي عن فراسة المؤمن أحاديث لايصح بعضها ويكفينا في ذلك الآية السابقة ، ومما جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه - المجلدُ العشرون - وأصله حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشُبهات ، والعقل الكامل عند حلول الشهوات " والمقصود من ذلك كلّه هو التمييز بين الحق والباطل عند اشتباه الأمور وتداخل الحلال مع الحرام والتمييز بين الناس ممن إرادتُه الحق ومن إرادته الباطل ، وممّن يلتمس دينه من النور والهدى والوحيين ( الكتاب والسنة ) وممن يلتمس دينه من الأهواء ودس الشيطان ووسوته وتزيينه ، وكثير منهم لايُحسّون بذلك لأن المنكر اشتمل على قلبه واستولى على فؤاده في الواقع فزيّن له سوء عمله وهو ينظر إليه بأنه حسنٌ واعتيادي كحال من يتبيح البناء على القبور والطواف بها والإستغاثة بها الذي ورد بتحريمه النصوص الشرعية الواضحة ، فليحذر هؤلاء من قول الله تعالى : ( أفمن زُيّن له سوء عمله فرءاه حسناً فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليمٌ بما يصنعون ) ، وقال جل جلاله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) فانظر كيف حكم ربنا بالإشراك على من أطاع غير الله في معصية الله ولم يُفصل في ذلك ، وهذا يستوجب من المسلم أن يُغيّر من حاله ويضبط أفعاله كلّها بضوابط ومفاهيم الشرع الحنيف ، فالتغيير الأولي يبدأ من القلب والميزان هو شريعة الله المحكمة والعقل غذاؤه العلم لئلا ينجر صاحبه للضلالة والأعوان هم الصحبة الصالحة الناصحة والله هو المُستعان وعليه التُكلان في حال وآن ، فاللهم رحمة تهدي بها قلوبنا ونوراً ينير بصائرنا وعقولنا وعزاً تُعز به أوليائك وخذلاناً تخذل به أعدائك ياقريب يامجيب ، هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية . . .