الجمعة، 3 مايو 2019

خطبة عن تدبر القرآن

الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب هادياً للصواب ولم يجعل له عِوجا وصيّره قائماً بالحق وجملة الآداب وضمّنه فصل الخطاب وشامل الجواب والصلاة والسلام على النبي والأصحاب ذوي الألباب صلاة وسلاماً تدوم من رب الأرباب وخالق الخلق من تراب جلّ وتقدّس لاإله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى بطانة أهل الإسلام وبه تنال العلوم وتستضيء الأفهام وذلك من قول الخبير العلام (( واتقوا الله ويُعلمكم الله والله بكل شيء عليم )) 
(( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويُكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكلّ محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار ، عباد الله : 
وصف الله عباده المؤمنين بأنهم يتلون كتاب ربهم حق تلاوته فقال : (( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأؤلئك هم الخاسرون )) وهذه الآية تشمل كل من أخذ بالقرآن من المسلمين ومن أهل الكتاب 
وقد ورد عن قتادة السدوسي التابعي الجليل رحمنا الله وإياه أنه قال : " هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أولى بالصواب من غيره ، وإن قال آخرون أنهم بعض علماء بني اسراءيل الذين آمنوا به ورسله جمعياً وعملوا بما جاء في التوراة وعلى كل حال فإن الآية معناها : " أي يتبعونه حق اتباعه " بل إن تلاوة القرآن حق التلاوة معنى عام يشمل إقمة الحروف والحدود ومعرفة الحلال والحرام والعمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه ومن دعوات الصالحين : " اللهم اجعلننا ممن يقيم حروفه وحدوده ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته " . 
عباد الله : إن تلاوة كتاب الله ليست حروفاً تُقال ويُنطق بها مجردة من معانٍ وأوامر ومقاصد وأمر ونهي وواجب ومحرم وجائز ومستحب ولكن القرىن دستورٌ عظيم شاهد لمن عمل به وشافعٌ له وأنيس لصاحبه في القبر ويوم الحشر ، ومما ورد في ذلك حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبرُه كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك ، فيقول له : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، فيعطى المُلك بيمينه والخُلد بشماله ، ويُوضع على رأسه تاج الوقار ، ويُكسى والداه حلتين لايقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان بما كُسينا هذه ؟  فيقال : " بأخذ ولدكما القرآن " ثم يُقال له : اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرفها فهو في صعود مادام يقرأ هــذّاً كان أو ترتيلا ) رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة في السنن وحسّنه بعض أهل العلم وصححه الألباني 
وفسر أهل العلم بكون القرآن يوم القيامة يكون كالرجل الشاحب أي( المتغير اللون )  والمقصود ( ثواب القرآن ) وذلك ليشابه سعيه في الدنيا وينافح عنه ويذود عن صاحبه حتى ينال مراده في الآخرة ، ولذا قال السيوطي في شرح سنن ابن ماجه : " وكأنه يجيء - أي ثواب القرآن - على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا أو للتنبيه له على أنه كما تغيّر لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن ، كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغااية القصوى في الآخرة " انتهى وقال المجدّدي الحنفي في شرح ابن ماجه أيضاً : " كأنه يتمثل بصورة قارئه الذي أتعب نفسه بالسهر في الليل والصوم في النهار " .
فهذا القرآن العظيم يتقدم صاحبه ويتقدم كل تاجر ويفوز صاحبه الذي يعمل به ويقيمه في نفسه وفي أهله ومجتمعه ، يقيمه بأعلى الدرجات وعالي المنازل .
عباد الله : إن مما يُخاف على الإنسان من قارئ للقرآن بلسانه ويُخالفه بقلبه وجنانه وعمله ومعاملاته ولذا ورد عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " رُبّ تال ٍللقرآن والقرآن يلعنه " قد أورد ذلك الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ، فالله على سبيل المثال يقول : " ألا لعنة الله على الظالمين " وتجده من أسبق عباد الله للظلم وسلب حقوق العباد ، وتجد أن الله يقول : " ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا .. " فتجده حينها من أسبق الناس لغيبة العباد والتجسس عليهم ، وتجد أن الله يقول : " إن الذين يُحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليم في الدنيا والآخرة .. " وهو ممن فيه هذه الصفة الموقوتة وهي محبة نشر الفاحشة ، وتجد أن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو ينشر المنكرات ويحثّ على الفواحش أو يرتكبها ويُسارع للسيئات , وهكذا فيجب على كلٍ منّا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمتثل أوامر الله فيأتمر بها ويحث على طاعته بالكلمة والنصيحة والتوجيه السليم بالتي هي أحسن ، ويحذر من مناهي الله ويُحذّر منها بالقول المقرون بالترهيب والمبــطّن بالمحبة للمنصوح والحذر من الشماتة به ونشر مثالبه ومعايبه مع سؤال الله العفو والعافية من شرّ ماابتلى به العباد من نقائص وفتن وبلايا ومحن ولنكن من أولئك العدول وأولئك الخلف الصالح الذين حدّث بهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال كما رواه مسلم من حديث عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مامن نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثمّ إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالايفعلون ويفعلون مالايؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل " . . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابراهيم العذري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المُبطلين وتأويل الجاهلين " أورده العلامة ابن عبدالبرّ في التمهيد وهو مرسل وصححه ، وصححه الإمام أحمد أيضاً وأورده البيهقي بلفظ : " يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين " . 
عباد الله : إن تدبر القرآن هو باب العلم الأول الذي يُعرف به الحلال والحرام والفوائد والحكم ، وما تصدر أحدٌ من علماء الأمة إلا بلا مبالغة إلا بتدبر القرآن والعكوف على معانيه مع بذل النفس في طلب العلم قال الله تعالى : (( كتابٌ أنزلناه
مبارك إليك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )) وقال الحق سبحانه : (( أفلا يتبدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها )) وقال جل ذكره : (( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا )) .
إن التدبر ياعباد الله له أثر في تغيير النفوس وتربيتها على الهدى والنور فكم من آياتٍ أحيت قلوباً ميتة ، بل إن بعضهم كان سببه إسلامه آية واحدة وصدق الله جل جلاله حين قال : ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء عباده ومن يضلل الله فماله من هاد ) فالوقوف عند معانيه وتعقلها سبب عظيم من أسباب الخشية والخوف من الله تعالى وسبب لاستقطاب العلم ونيله والفوز به ، ولقد كان المصطفى عليه السلام كما في حديث حذيفة بن اليمان
حيث صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقرأ مترسّلا ً إذا مرّ بآية تسبيح سبّح وإذا مرّ بسؤال سأل وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ " رواه الإمام مسلم في صحيحه وهذا نهجٌ نبوي ينبغي السير عليه وهو من الوسائل المعينة على فهم الكتاب وتدّبره والعمل بما جاء فيه حيث أن ذلك يُعين على استحضار القلب واستشعاره للمعاني الواردة في الآيات المتلوّه . 
اللهم أعنا على فهم الكتاب وتدبره والعمل به وبارك لنا فيه وأعنّا على مرضاتك واجتناب معاصيك وسخطك ياحي ياقيوم ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه ثمّ توبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود 

============ الخطبة الثانية ============

الحمد لله حمد الشاكرين وإله المتقين وسع علمه الماوات والأرضين والصلاةوالسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه ماتقرب العباد لربهم بأفضل من كلامه وخصوصاً في شهر رمضان وهي حقيقة فإن اشتغال القلب بكلام الله يكف عن اشتغاله بكلام العباد ، فإن القلب في الواقع مشتغلٌُ إما بكلام الله أو بكلام الناس فطوبى لمن اشتغل بما خُلق له من عباد الواحد الديان وياخسارة وغبن من فاته مواسم العبادات والطاعات مشتغلاً عن كلام ربّه وخالقه بكلام غيره الذي لاثمرة من وراءه ولا عاقبة حُسنى تُنال به ، فانظر إلى حال الرعيل الأول كيف أنهم يكررون ويُرددون كلام الله آية واحدةٌ أو آيات لتشتغل قلوبهم بلذيذ خطاب المولى جل جلاله فقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم صلى ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : ( إن تُعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) روى ذلك الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه  وقامت عائشة بآية وهي قول الله تعالى : ( قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البرّ الرحيم ) ترددها وتبكي لساعات وتقول : " اللهم منّ علينا وقنا عذاب السموم ، تقول ذلك في الصلاة ، وقرأ عمر الفاروق سورة الطور إلى أن بلغ قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع * ماله من دافع ) فبكى واشتدّ بكاؤه حتى مرض وعادوه . وورد في هداية جبير بن مطعم رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلمّا بلغ هذه الآية : ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لايوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ) قال : كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ماوقر الإيمان في قلبه  . 
ومن أعجب ماروي في ذلك قصّة علي ابن الفضيل بن عياض التميمي التابعي الجليل رحمه الله أن أبوه الفضيل كان يقرأ في المغرب بـ( ألهاكم التكاثر ) فلمّا بلغ قول الله تعالى : ( لترون الجحيم ) سقط الإبن علي مغشياً عليه فما أفاق إلا في ثلث الليل ، وقرأ ذات مرّة بآية في سورة الأنعام ظناً منه أن ابنه ليس في الجماعة الذين يُصلي بهم وهي قول الله تعالى : ( ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا ياليتنا نُرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) فما راعهم إلا سقوطه مرّة أخرى وكانت سقطته الأخيرة فارق بها الحياة وكان يُقال له " شهيد القرآن " . . فأنشدكم الله أين نحن من أولئك الكرام المؤمنين من أماجد السلف الصالح وأسوة المتقين وأعلامهم الأثبات القدوات . 
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير  












خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...