الاثنين، 25 ديسمبر 2023

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

 الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام على النبي البشير والسراج المنير  الذي أرسله ربه للثقلين الجن والإنس ليهديهم لأقوم سبيل وهو الجواد الكبير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم المصير أما بعد : 

فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى عليه مدار الأعمال ، وبه نجاة العبد من سوء الخاتمة في عرصات الإحتضار والآجال ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . 

واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : خاتمة العبد المسلم عليها مدار المصير وتحديد المآل وتبين حين حلول الآجال وليست تتأثر بالأعمال وإنما هي أسباب ولكن تتأثر بعمل القلوب فيُزيغ ربُنا علام الغيوب من في قلبه مرض عن بلوغ المطلوب ؛ بسبب نيّة ذلك العبد الزائغ وسوء قصده ، ويهدي سبحانه وتعالى إلى أمثل طريق وأفضل خاتمة من صلحت نيته وقصدُه وفي الحديث الصحيح : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى " وفي قوله : " وإنما لكل امرئ مانوى " أن بالنية الصالحة تتحقق الخاتمة الرابحة ، وأكثر مايقلق العبد المؤمن اشتغاله بخاتمته فهو بخوف ورجاء خوفاً على نفسه من سوء الخاتمة فيطاله حديث النبي الصحيح : " إن العبد ليعملُ فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة " وحديث " فوالذي لاإله غيره إنَّ أحدكم ليعملُ عمل أهل الجنّة حتى مايكون بينها وبينه إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب ، فيُختم له بعمل أهل النار فيدخُلُها ، وإن أحدَكم ليعملُ بعمل أهل النار حتى مايكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيُختمُ له بعمل أهل الجنة فيَدخلُها  " . 
وكذلك رجاءً لما عند الله من الرحمة الذي يقول في محكم التنزيل : ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتُبُها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ) . 
ولهذا من الواجب على العبد أن يسعى سعياً حثيثاً لكي يختم له بخاتمة تسرُّه لأنه يعلم علم اليقين أن العبرة بالخواتيم ، وفي الحديث عند البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأعمال بالخواتيم " وفي رواية عن الإمام أحمد في مسنده صححها بعض أهل العلم : " وإنما الأعمال بالخواتيم " .  
عباد الله : إن سوء الخاتمة لها أسبابٌ منها : 
أولها : سوء النية والقصد وهذا واضحٌ جلي ذكرناه آنفاً ، إن صاحب سوء النية العزم على الفعل أو الشروع فيه وقدر ذُكرت قَصص كثيرة على ساءت نواياهم بأناس صالحين أو صالحات فتوفاهم الله على حال لاتسر وعصم الله أولئك الصالحين والصالحات ممن أراد بهم شرّاً وصارت عاقبة أولئك الفساق شر عاقبة نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة 
ثانيها : الظن السيء بالله فالله يُجازي بسوء الظن صاحبُه ؛ فيقول الحق تبارك وتعالى في شأن من يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم : ( وماكنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لايعلمُ كثيراً مما تعملون * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) . 

الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

خطبة عن الإشاعة وخطر الشائعات على المُجتمع

  إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . 
واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : الإفك من القول مرضٌ وداء ، يشيعُ الكذب ويشوّه صورة المؤمنين ، والبُرآء من الناس بحيلة ومكر كُبّار ويجلب لصاحب الشرور ، وهو من حيلة الفُجّار ، الذين يُغرون أقرانهم من الأشرار ، والإشاعة من هذا القبيل لها أثرٌ خطير ، وشرٌ كبير ، وأول إشاعة كانت في المجتمع الإسلامي حادثة الإفك التي أشاعها المنافق في عصر النبوة عبدالله بن أبي بن سلول ، ضد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حتى أنزل الله ببطلان هذه الإشاعة التي تكلّم بها الكبير والصغير والحرُّ والعبد والغني والفقير في عصر النبوة الزكي ، وأنزل الله في ذلك آيات تُتلى إلى يوم القيامة وأدب الله فيها المؤمنين وعذّب بها المنافقين الذين يخوضون في القول الباطل بلا بيّنة ولا بُرهان ( إن الذين جاؤا بالإفك عُصبة منكم لاتحسبوه شرّاً لكُم بل هو خيرٌ لكم لكل امرئ منهم مااكتسب من الإثم والذي تولّى كِبره منهم له عذابٌ عظيم * لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مُبين * لولا جاؤا عليه بأربعة شُهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) . 
عباد الله : إن مما يدخُلُ في الإشاعة إتيان الفُساق بالأخبار الكاذبة ونشرها بلا بيّنة ولا دليل ، وهؤلاء حذّر الله منهم بصريح الكتاب حيث قال جل وعلا : ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تُصيبوا قوماً بجهالة فتُصبحوا على مافعلتُم نادمين ) وهذا نوعٌ من الكذب خطير ، وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط حيث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه لبني المصطلق لجلب صدقاتهم وأنهم خرجوا يتلقون رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحُدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونَه ، فرجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً ، فبينا هو يُحدّث نفسه أن يغزوهم إذا أتاه الوفد ، فقالوا : " يارسول الله إنّا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنّا خشينا أن ماردَّهُ كتابٌ جاء منك لغضبٍ غضَبتَهُ علينا ، وإنّا نعوذ بالله من غضبِه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب بهذه الآية . 
عباد الله : مما ورد أيضاً في عقوبة مُطلق الإشاعات الكاذبة ومُفشيها بين الناس ماورد في حديث سمُرة بن جندب رضي الله عنه الطويل وهو في صحيح البُخاري وجاء فيه : " كان رسول الله مما يُكثر أن يقول لأصحابه : هل رأى أحدٌ منكم رؤيا ، قال : فيقصُ عليه من شاء الله أن يقُص ، وإنّه قال ذات غداةٍ : إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهم قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما - ثم ذكر أناساً يُعذّبون - ثم قال : فأتينا على رجل مستلق ٍلقفاه ، وإذا آخر قائمٍ عليه بكلّوبٍ من حديد ، وإذا هو يأتي أحدَ شقيّ وجهه فيشرشر شدْقَهُ إلى قفاه ومِنخرهُ إلى قفاه وعينَهُ إلى قفاه ، قال ثمّ يتحوّلُ إلى الجانب الآخر فيفعلُ به مثلما فعل بالجانب الأول ، فما يفرغُ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل مثلما فعل في المرة الأولى ، قال : قلتُ سبحان الله ماهذان ؟ "  فأجيب عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بقوله : " وأمّا الرجُلُ الذي أتيتَ عليه يُشرشر شدقُه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينُه إلى قفاه ، فإنه الرجُل يغدُو من بيتِه فيكذِبُ الكذبَة تبلُغ الآفاق "  .
عباد الله : الإشاعة إما أن تكون في أشخاص أو في أخبار فإن كانت في الأشخاص فعذابها ونكالها أن يُسكنه الجبّار جل جلاله ردغة الخبال - وهي عُصارة وصديد وقيح أهل النار - حتى يأتي بالمخرج مما قال ، ففي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال  : " من حالت شفاعتُه دون حد من حدود الله فقد ضادّ الله ، ومن خاصم في باطل وهو يعلمُه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه ، ومن قال في مؤمن ماليس فيه أسكنَه الله ردغة الخبال حتى يخرُج مما قال " وكفى بذلك عذاباً ونكالاً - أجارنا الله وإياكم - وهذا إذا لم يُشع عنه فكيف بالإشاعة عنه مما ليس فيه فلا شك أن عُقوبَتَها أشد وأغلظ .
وأما التي تكون في الأخبار فتشملُها النصوص الواردة في الكذب ، والكذب قبيح العاقبة سيءُ المصير ، فلنحذر ياعباد الله من هذا البلاء - وهو المشاركة في نشر الشائعات - بلا تثبت ولا بُرهان ، فإن التثبت من خُلُق أهل الإيمان والعجلة يؤز إليها الشيطان أهل الخفّة والطيش فمع التثبت تحصُل السلامة ، وتندفع الندامة وكم من عجلة أورثت ندما ، وتُهمة جلبت ألما ، فاللهم أجرنا من مُنكرات الأقوال وسوء الأفعال وموجبات الضلال ياذا الجلال والإكرام ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

================== الخطبة الثانية ==================

الحمدلله الحميد المجيد والصلاة والسلام على المبعوث لسائر الخلق والعبيد ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أهل القول السديد والنهج الرشيد ومن تبعهم بإحسان ٍإلى يوم المزيد أما بعد  : 
فاتقوا الله - ياعباد الله - واعلموا أنه لاعافيه من الشائعات ولا تبعاتها إلا باتباع النهج الرباني الذي شرعه في كتابه وبينه نبي الهدى عليه الصلاة والسلام ومن ذلك : 
- الظن الحسن بأخيك المسلم عند ورود إشاعة باطلة تبيّن كذبُها وإفكُها وذلك جليٌّ في قول الله تعالى في حادثة الإفك : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مُبين ) 
- وكذلك عدمُ المشاركة في نشرها مالم يكن هناك دليلٌ واضح على صحة الخبر فيجب التريث والإستيضاح من كل مايرد من أخبار ، والنشر مشاركة تقوم مقام الكلام إذا كانت رسالة ، وليتذكر العبد المسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذباً أن يُحدّثَ بكل ماسمع " وهو حديثٌ مرسل ، وفي حديث صحيح آخر : " كفى بالمرء إثماً أن يُحدّث بكل ماسمع " .
قال النووي رحمه الله : " فإنه يسمعُ الصدق والكذب ، فإذا حدّث بكل ماسمع فقد كذَب لإخباره بما لم يكُن ، والكذب الإخبار عن الشيء بخِلاف ماهو ولا يُشترط فيه التعمّد " انتهى كلامه - يعني لايُشترط فيه أنه لو عرَف أن هذا كذباً لم يتكلم به ولم يحدث به ، ولكنَّ كونُه يتكلم ويُحدث بكل ماسمع به فهذا آثمٌ بغض النظر عن كونه واقعٌ أو غير واقع  
- ومن ذلك الحدز من كلمة زعموا أو يقولون ، فإنها تدخُل في الإشاعة وقيل لأبي مسعود رضي الله عنه : ماسمعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بئس مطيَّة الرجل زعموا " . 
والإشاعة في وقت الفتن ونشرها أشد وأظلم ، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إيّاكم والفتن فإن وقعَ اللسان فيها مثلُ وقع السيف " . 
- وأخيراً يجب على الجميع أن يتلقّى الأخبار من المواقع الرسمية والمنصات المعروفة التي في الغالب تسلم من الكذب والتزوير ، وخبرها أوثق وآكد ، رد الله المكائد والشرور عن الإسلام وأهله في كل مكان إنه سميعٌ مُجيب من عباده قريب . .  ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير فقد قال عز من قائل عليما : ( إن الله وملائكته يُصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . 

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

خطبة عن القراءة وأهميتها في مجتمعنا

الحمدلله الذي خلق الإنسام من عدم ، وعلّمه  بالقلم مالم يكن يعلم ، وأسبغ عليه وافر النعم ، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا خير رسل الأمم ، أنار بدعوته الطريق من الدياجي والظُلم ، وبعثه إلى الأميين بجوامع الكلم ، ليكونوا سادة أحباراً ويبلغوا الذرى والقمم ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أهل الفضائل والكرم ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : 

فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى يزيد في الهدى والبصيرة ويقي من الشرور الكثيرة ( واتقوا الله ويعلّمكم الله والله بما تعملون عليم ) ( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فُرقاناً ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) 

واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : ماتقدمت الأفراد والشعوب وما كان لها وزنٌ معتبر بين الأمم وعند الله عز وجل إلا بعلمٍ وديانة وثقافة تدل على الفضائل وتحجب عن الرذائل ، ولا يتأتّى هذا العلم ولا تزيد الثقافة الدينية والدنيوية إلا بالقراءة والإطلاع وأول كلمة أنزلها الله على نبيه قبل فاتحة الكتاب كلمة " إقرأ " ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علَق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم اِلإنسان مالم يعلم ) والقراءة - ياعباد الله - غذاء الأفكار وخلاصات التجارب ،  ومنارات يستنير بها أهل العقول والبصائر ، وهي سبيلٌ لرفع الجهل وبابٌ للعلم لايتم طلب العلم بدونها ، ولمّا كان أهل الكتاب قبلنا سبقوا بالقراءة وكانوا أهل كتاب بدراستهم وفهمهم ،أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألَ المنصفين منهم وأهل العدل حين الشك ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) وليس بشاكّ عليه الصلاة والسلام ، ولكنّ تلك الآية لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم  ، والقراءة لكتاب الله جل وعلا رفعةٌ ودرجات وتجارة مع الله ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ) ، والقراءة والحفظ تسويدٌ في إمامة المصلين وفهمٌ وتأملٌ لكتاب رب العالمين ، ففي الحديث الصحيح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمُهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمُهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء ، فأقدمهم سنّاً . . " رواه مسلم .

عباد الله :  الله فضل القارئين والدارسين على غيرهم من فئات المجتمع ، وجعلهم - إن حصّلوا علم الكتاب - ربانيين ومشاعل هدى في مجتمعاتهم بسبب تعليمهم وقراءتهم ودراستهم ( ماكان لبشر أن يؤتيَه الله الكتاب والحُكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كُنتم تُعلمون الكتاب وبما كُنتم تدرسون ) . 

وكذلك من تعلم القرآن وعلّمه نال الخيرية والفضل على سائر الناس وذلك لايكون إلا بالقراءة والمطالعة والحفظ ، ففي الحديث الصحيح : " خيرُكم من تعلّم القرآن وعلّمه " بل إن التدبر الذي أُنزل من أجله القرآن لايتأتى ولا يكون إلا بجودة القراءة وتلك منزلة ودرجة أرفع من مجرد القراءة ( كتابٌ أنزلنا إليك مبارك ٌليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) . 

عباد الله : هناك أمور في ديننا لايقوّمُها إلا العلماء الدراسون الذين اتسع علمهم ودراستُهم واطلاعُهم ، وهناك أمور دنيوية لايتمُ تعلمها ولا معرفتُها إلا بالقراءة والإطلاع ، ولا تكفي فيها التجربة والصَنعة ، ولذا لمّا كانت كثيرٌ من هذه الأمور مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقراءة والدراسة والإطلاع كان علينا مسؤوليةً مُناطةً بحث أفراد المجتمع بداية بأفراد الأسرة على القراءة والإطلاع ، وذلك لأنه إذا ساد الجهل بسبب قلّة العلم والقراءة والإطلاع صار المجتمع يدمّر بعضَه بعضاً ، فلا صاحبُ طب يحُسن ولا صاحبُ هندسة يُتقن ، ولا علمٌ يُنشر ولا جهلٌ يُرفع ، ولذا كثُر كلام التربويين حول أهمية الإطلاع والمعرفة  والقراءة ، وكان كثير منهم يقول : " أمة إقرأ لاتقرأ " .

عباد الله : من ثمار القراءة ونتاجها : الإطلاع على أفكار الآخرين النافعة وتجاربهم المفيدة وانتقاء الفكرة الحسنة النافعة لنقلها إلى الآخرين ، فينتفعون بها وتغير مستواهم الثقافي والعلمي للأفضل وهذا أمرٌ ملاحظ ، ومن ثمارها : أن الفرد القارئ يصبحُ أكثرُ نضجاً وعقلانية واتزاناً من غيره ، ومن ثمارها وهو الأهم : وجود الثراء اللغوي لديه وفهمه لمجتمعه ، ولذا تجد الذين يجيدون التعبير والكلام ويتكلمون في المحافل والمنتديات وكذلك أمام الجمهور من الناس هم أكثر الناس قراءة واطلاعاً ويتمتعون بسعة أفق وطلاقة لسان وأفكار إيجابية غالباً ، وذلك لأن العقل البشري يتصاغر عندما يكون متقوقعاً على نفسه لايطلعُ على أفكار الآخرين النافعة ، ولا يثري نفسه ، وكذلك كلامه وتعبيرُه إذا كان لم يثمّرُ لغته وبيانه وينمي مواهبه وقُـدراته ، ومن ثمارها أيضاً : قضاء وقت الفراغ الذي يضيع هدراً بلا فائدة . 

عباد الله : الإنتقاء للكتب المقروءة أمر مهم وحتمُ لازم فليس كل مايباع يُشترى فيُقرأ ، ومن كانت قراءته لكل مايقع في يده فقد فتَن نفسه ، وأوردها موارد الهلاك فهناك كتبٌ لايجوز قراءتها للعامي ولا لغير العامي ككتب السحر والشعوذة ، وكذلك الكتب التي تورد الشبه وتشكك في الدين وكتب المنطق والفلسفة والكلام ، ولا يحل قراءتُها إلا من قِبل عالمٌ يريد الرد على المدّعي لتلك الشُبَه وتفنيدها ،  وقد أورد النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى في يد عمر شيئاً من التوراة فقال : "  لو كان موسى حيّاً ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتُم " وفي رواية : " ماوسعه إلا اتباعي " وفي لفظ : " فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عرض عليه عمر ذلك ، فقال له بعض الأنصار : يابن الخطاب ! ألا ترى إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر رضي الله عنه : رضينا بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا " وفي حديث آخر : " أمتهوكون فيها يابن الخطاب - أي أشاكون فيها - قد جئتُكم بها بيضاء نقيّة " وإن من المحاذير التي يجب أن ينتبه القارئ لها أن هناك أناس ضلوا وزلُّوا بسبب قراءتهم لكتبٍ تهدم أصول الدين وتشكك في العقيدة وربما تدعوا إلى الإلحاد ، فيجب الحذر ، وهناك من الكُتب من لاتعود على قارئها بمنفعة ولا فائدة فينبغي أن يتجنبها القارئ الفطِن ؛ لكي يُشغل وقت فراغه بما ينفعه ويزيدُ علمَه وهو على ذلك مأجور ، إن أراد رفع الجهل عنه ، فاللهم وفقنا للعلم النافع والعمل الصالح ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه من الخطايا والأوزار إنه هو العزيز الغفار . 

============= الخطبة الثانية =============

الحمد لله الذي هدى لسبيله القويم وأزاغ كل من تنكب عن صراطه المستقيم ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :

عباد الله :  إن من يُمارس التعليم في بلاد العرب والمسلمين يجد عزُوفاً مخيفاً عن القراءة بين طلاب التعليم العام على وجه الخصوص وهو التعليم الذي يبني شخصية الطفل والشاب حتى يُقارب النضج ، وهذه المرحلة هي التعليم الذي يسهُل بعده طرق أبواب التخصصات العلمية الدقيقة التي يحتاجُها المجتمع هذا اليوم ، فإذا كان بناءُ هذا الدارس والناشئُ هشّا في مراحله الأولية تضرّر وعسُر عليه كلُّ باب من هذه التخصصات ، وكذلك التخصص الذي يُحبّه ويسعى جاهداً إليه وهذا يبيّن أثر الإطلاع والقراءة والفهم على مستقبل الأمة وأفرادها بشكلٍ عام ، فكل هذه التخصصات العلمية تكمّل المجتمع المسلم وتسعى لتلبية احتياجاته وتسدُّ العجز إذا تمت تغطيتها بالمَهَرة من الأفراد الذين أتقنوا تخصصاتهم وواصلوا عطائهم باطلاعهم ومعرفتهم . 

عباد الله : بعض المنظمات العالمية ترصد مستويات الإطلاع والثقافة والقراءة في شتى البلدان والمجتمعات البشريّة ومن ضمنها المجتمعات المسلمة والعربية ، ووجدوا أن هناك تدنٍّ ملحوظ وواضح في مجال القراءة والإطلاع في المجتمع العربي مقارنةً بالمجتمعات الشرقية والغربية ، وهذا نذيرٌ ينبئ أن هجر القراءة والإطلاع بدأت تزداد رقعته في مجتمعنا والمجتمع العربي بشكل عام وفي المجتمع المسلم بشكل نسبي ، مما يستدعي اليقظة وأهمية الوعي بين الأسر ومسؤوليتَها في حث أفرادها على العناية بالقراءة والإطلاع ومتابعتهم في تنفيذ ذلك  .

عباد الله : إنه من خلال العمليات التعليمية التي تجري في المدراس تبين أن هناك طلابٌ أخفقوا في دراستهم بسبب عدم اهتمامهم بالقراءة التي هي مفتاح الفهم والحفظ ، بل لم يعتد الطالب من هؤلاء الذين أخفقوا على الكلمة المقروءة ولم ترتسم في ذهنه بعد ، فكيف يتوصل لفهم النص المقروء ، ثمّ كيف يصل إلى فهم الخطاب ومحتواه ومناسبته وتلك درجة أرفع من مجرد الفهم ، وكان من أعظم أسباب المشكلة هو دوام مُطالعة المقاطع المرئية التي لاتحتوي على نص ، فلا يجد الطالب مايقرأ أصلاً ، وهنا يَظهرُ الضعف وتتفاقم المشكلة إذا لم يتولاها رب الأسرة بالحلّ والعلاج ، فاتقوا الله معشر الآباء والمربين في الأبناء والبنات ومن كان تحت ولايتكم ، واتخذوا أسباباً ترفعوا عنهم هذه المشكلة ، فإن أمرها هيّنٌ مع البذل والعطاء ، شاقٌ مع الإهمال والإتكال والتسويف ، فاللهم علّمنا ماينفعُنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً ياجواد ياكريم .  

الخميس، 16 نوفمبر 2023

خطبة عن الوحي وما يتعلق به

 إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . 
واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : الوحي من الله لأنبيائه نعمة عظيمة لإخراج الناس من الضلال وهدايتهم لطريق النور والهدى يختص الله بها من يشاء من عباده ، والوحي معناه : الإعلام بخفاء ، وهو نوعان : وحي حق من الله لايأتيه الباطل ، ووحي شياطين يوحون إلى أوليائهم بما يصدهم عن الحق ، فيقول الحق تبارك وتعالى في وحي الحق : ( قل إنما يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحد فهل أنتم مسلمون ) وقال لموسى جل وعلا : ( وأنا اخترتك فاستمع لما يُوحى )  وقال في الوحي الباطل : ( . . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليُجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) والله جل وعلا أوحى إلى الأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام وأوحى جلّ وعلا لرسل لم يقصصهم ، ولم يذكرهم في القرآن العظيم : ( إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلاً قد قصصناهم عليك ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) . 
عباد الله : الوحي من الله جل وعلا يوصف بأنه كجرِّ السلسلة على صفوان - أي حجر أملس - فله صوت مُفزع شديد وقد روى أبوخزيمة في كتاب التوحيد والطبري وأبوداود في سننه وابن حِبّان في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله إذا تكلّم بالوحي سمِع أهل السماوات للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفا ، فيصعقون فلا يزالون كذلك جتى يأتيهم جبريل فإذا جاءهم جبريل فزّع عن قلوبهم - أي زال الفزع عنهم - قال : فيقولون : ياجبريل ، ماذا قال ربك ؟ قال : الحق " وفي رواية يقولون : الحق وهو العلي الكبير " وهو مصداق قول الله تعالى : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) . 
 وأما الوحي للنبي فله صور ذكرها حديث عائشة رضي الله عنها حينما سألت النبي َ صلى الله عليه وسلم وقالت : " يارسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدُّه عليّ ، فيُفصم عني وقد وعيت عنه ماقال ، وأحياناً يتمثَّل لي المَلك رجلاً فيُكلّمني فأعي مايقول " قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيُفصم عنه وإن جبينَه ليتفصّد عرقاً " والحديث متفق عليه . 
  ولهذا كان الأنبياء من أقوى الناس جسماً وأكملهم عقلاً لكي يقوى على تحمّل ماينزل عليه من الوحي ، ففي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند البُخاري رحمه الله أن رسول الله صلى الله أملى عليه : ( لايستوي القاعدون من المؤمنين . . والمُجاهدون في سبيل الله . . ) قال : فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُملُّها عليّ ، فقال : " يارسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان رجلاً أعمى - فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفخِذُه على فخذي ، فتقُلت عليّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ، ثمّ سُرّي عنه ، فأنزل الله عز وجل : ( غيرُ أولي الضرر ) فكانت الآية : 
 لايستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمُجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة . . . ) الآية 
عباد الله : قد يكون الوحي رؤيا يراها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ولها حكم الوحي وأحكامها وأخبارها حقٌ لكنها تختلف عن الرؤيا التي يراها غير الأنبياء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رؤيا الأنبياء في المنام وحي " رواه ابن عباس رضي الله عنه وأخرجه ابن أبي حاتم والترمذي معلقاً ، وأخرج البخاري رحمه الله عن عُبيد بن عُمير يقول : " إن رؤيا الأنبياء وحيٌ " ثم قرأ قول الله عن ابراهيم خليل الرحمن عليه السلام لابنه اسماعيل : ( يابني إني أرى في المنام أنّي أذبحُك قال يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . 
 عباد الله : لمّا يتأمل المسلم قول الله تعالى : ( وماكان لبشر أن يُكلّمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحيَ بإذنه مايشاء إنه عليٌ حكيم ) يجد أن الله جل وعلا لايتجلّى لأحد ولم يتجلّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به فكيف بمن دونه من البشر ، ولّما طلب موسى عليه الصلاة والسلام رؤيته أمره الله أن ينظر إلى الجبل فإن استقر فسوف يراه فدُك الجبل لمّا تجلّى منه ماتجلّى وخرّ موسى مغشياً عليه مصعوقاً بما رأى ، وفي ذلك دليلٌ واضح جلي أن الله مهما كلّم وأوحى للرسل فإنه لايتجلّى لهم في هذه الحياة الدُنيا أبداً لأحد ، وأما ماكان من تجليّه لعبدالله بن حرام الأنصاري الذي استُشهد في أحد ، وهو أبو جابر بن عبدالله الصحابي الجليل فإنه كان في دار البرزخ بعد الموت ولم يكن في هذه الحياة الدنيا ، وهي له كرامة ورفعة . . أكرمنا الله وإياكم بفضله ، ولطف بنا وعامَلنا برحمته ورفعنا منازلاً في دار كرامته . . أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 
============== الخطبة الثانية ============== 

الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن لدينه اقتفى وبهديه اهتدى أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنه كما أن القرآن وحي من الله جل وعلا فإن السنّة وحي من ربنا جل وعلا مرتبطة بالقرآن ومفسرة له لاتنفك عنه كما قال جل وعلا : ( وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس مانزّل إليهم ولعلهم يتفكرون ) وكذا قول الله تبارك وتعالى : ( وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقومٍ يؤمنون ) ، ولا يُعلم البيان ولا مراد الله ولا أحكامه إلا ببيان رسوله ، بل إن في السنة مايقوله الله جل وعلا ولكن ليس مثل القرآن فلا يتعبّد بتلاوته كالقرآن كالأحاديث القدسية التي قالها ربُنا جل وعلا وبلغ بها نبي الأمة عليه الصلاة والسلام ، كقول الله في الحديث القدسي : " يابن آدم إنك مادعوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي . . " وقوله تعالىفي حديثٍ آخر  : " العز إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني بشيء منهما عذّبتُه " وغيره من الأحاديث  . 
عباد الله : إن كثيراً من أعداء دين الله ومن سلك سبيلهم يلقون بالشُبه لشككوا الناس بعقيدتهم ،  ويحاولوا أن يُقصوا السنة عن القرآن لكي يجعلوا هذا الدين عضينَ ، ومقسّماً فيحزّبوا بذلك المسلمين ، ويجعلونهم فرقاً متناحرين ، قاتلهم الله أجمعين ، هم طائفة حذّر الرسول منهم ومن نهجهم وبيّن أن منهم من ينتسب إلى الإسلام ، فيأتيه الأمر من قول رسول الله فيرُدّه بحجة أنه ليس في القرآن ، وأنّه لايأخذُ إلا بالقرآن ، فذلك الضلال البعيد والرأي المحيد عن الحق والقول السديد فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفينَّ أحدَكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أُمرت به أو نهيتُ عنه ، فيقول : لاأدري ، ماوجدنا في كتاب الله اتبعناه " أخرجه ابن ماجه ، وفي لفظٍ آخر عند الترمذي : " ألا هل عسى رجلٌ يبلُغه الحديثُ عنّي ، وهو متكئٌ على أريكته ، فيقول : بننا وبينكم كتابُ الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه ، وإنَّ ماحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله " . . نعوذ بالله من مضلات الفتن ماظهر منها وما بطن ، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . 
    

الأربعاء، 8 نوفمبر 2023

خطبة عن غزوة الأحزاب والمتحزبين ضد الإسلام وأهله في واقعنا .

 إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . 
واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : ليكن دائماً في يقين المسلم وضميره أنه مهما تكالب أعداء الإسلام على هذه الأمة فالعاقبة لها ، والسوء على أعدائها ، فهذا وعدٌ من الله لايُخلف مهما طال الزمان ، ولكن قبل ذلك تمحيصٌ وبذل وابتلاء ( وعدَ الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لايُشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )  . 
عباد الله : لو رجعنا إلى سيرة المصطفى وأصحابه لوجدنا أن في غزوة الأحزاب وما جرى فيها من أحداث سلوة وعِبرة للمؤمنين ، حيث تكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوب ، لاجتثاث أهل الإسلام وقتلهم - وأنّى لهم ذلك - وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة ، وكان سبب ذلك أن عشرين رجلاً من اليهود من بني قُريظة وبني النضير خرجوا يُألبون القبائل على المسلمين لمّا أجلى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرٌ منهم إلى خيبر - وهذه عادة اليهود في كل عصر وزمن - فهم حربٌ على الإسلام وأهله ، فبدأوا بقريش وكنانة وما جاورها من أهل تُهامة وكذلك غطفان وبني أشجع وبني مرّة وبني أسد وبني سُليم وبني فزارة فتجمّع لغزو المدينة قُرابَة عشرة آلاف مُقاتل ، فما أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، استشار أصحابَه عليه الصلاة والسلام ، فأشار الصحابي الجليل المسدّد سلمان الفارسي بحفر خندقٍ حول المدينة حماية لأهلها في ظاهرة لم تعرفْها العرب من قبل ، وقال : " يارسول الله إنا إذا كُنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل ، خندقنا علينا ، فهل لك - يارسول الله - أن تُخندق " فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم برأيه ، وبدؤا بحفر الخندق الذي طوله خمسة آلاف ذراع وعرضُه تسعة أذرع وعُمقه من سبعة أذرُع إلى عشرة وكان من الجهة الشمالية من المدينة فيما بين الحرتين واقم والوبرة ، وكان لكل عشرة من الصحابة أربعين ذراعاً ، فحفروه في ليالي شاتية يبتدرون القوم لئلا يباغتوهم وهم غُفل ، فتمّ حفره وبلغ بهم من الجهد والجوع والنصب مبلغاً عظيماً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يشدّ من أزرهم ويسليهم ويعدهم بالعاقبة الحميدة وكان يقول : 
" اللهم لاعيش إلا عيشُ الآخرة * فاغفر للأنصار والمُهاجرة " . 
 ويجيبون قائلين : " نحنُ الذين بايعوا محمداً * على الجهاد مابقينا أبدا " 
وذات مرّة حينما كانوا يحفُرون اعترضتهم صخرة عظيمة لاتأخذ فيها المعاول فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وقال : " باسم الله " فضربها ضربة حتى كسرَ ثُلُثَها ، وقال : " الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحُمر الساعة " ثم ضربها ثانية فكسرَ ثُلُثَها وقال : " الله أكبر ، أُعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض " ، ثم ضربها ثالثة فكسرَ ثُلُثَها وقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا " . 
عباد الله : لمّا أقبل المشركون ورأوا الخندق المحفور احتاروا واندهشوا ولم يسنّى لهم اقتحام المدينة ، ومكثوا يحاصرونها شهراً ، وجرى خلال ذلك محاولات من بعضهم لاقتحام الخندق فمنهم من قُتل لمّا نجح في اقتحامه ، ومنهم من فرّ بعد اقتحامه ناكصاً إلى معسكره ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع النساء والصبيان  وصارت بين بعضهم وبين المصطفى عليه الصلاة والسلام مفاوضات على ترك الحرب والرجوع إلى بلادهم ، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم ثلث تمر المدينة على غطفان فقبلوا ، ولكنه لما استشار السعدين ، سعد بن معاذ وسعد بن عُبادة وهما سيدا الأنصار رفضا ، وقالا : يارسول الله ، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة ، وإن كان شيء تصنعُه لنا فلا حاجة لنا فيه ، لقد كُنّا وهؤلاء القوم على الشرك بالله عبادة الأوثان ، وهم لايطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرىً - أي ضيافة - أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نُعطيهم أموالنا ؟ والله لانُعطيهم إلا السيف ، فصوّب رأيَهما ، وقال : " إنَّما هو شيء أصنعه لكم ؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة "  . 

عباد الله : كان للمنافقين دورٌ مُحبط ومكرٌ خبيث يمكرون به يريدون أن يهدموا معنويات المؤمنين ، وكان مما قالوا " محمد يعدُنا أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدُنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقال بعضٌ منهم لقوله : " لامقام لكم فارجعوا " وقال آخرون لقومهم : " إن بيوتنا عورةٌ وماهي بعورة " أي خالية فلا يوجد من يحمي النساء والأطفال وهم كاذبون يريدون الهرب والفرار وكذلك كيدهم في كل معضلة تكون وحرب على الإسلام ، ولمّا طال الحصار وبلغ الخوف والرعب بالمسلمين مبلغاً عظيماً ، وأراد الله لهذا الأمر فرجاً ، وقيّض الله رجلاً من الصحابة رضوان الله عنه وكان أسلم قبل غزوة الخندق ، اسمه : " نُعيم بن مسعود الأشجعي " جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ماجاء بك يانُعيم " فقال : " إني جئت أصدّقُك وأشهد أن ماجئت به حق ، فمُرني بما شئت يارسول الله ، قال : " ما استطعت أن تُخذّل عنّا فخذّل " وقال له رسول الله : " قل مابدا لك فأنت في حل " فذهب إلى بني قُريظة فقال : اكتموا عني قالوا : نفعل ، فأخبرهم بأن قريش قد بدا لهم أن ينصرفوا بعدما طال الحصار وأقنعهم بعدم التورط في قتال حتى يأخذوا منهم رهائن لئلا يولّوا الأدبار ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين ، ثمّ أتى قريش وأخبرهم أن بني قُريظة قد ندموا على مافعلوا وأنّهم قد اتفقوا سرّاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عدداً من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ، دليلاً على ندَمِهم ، وقال لهم : فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رِجالكم فإياكم أن تسلّموهم رجُلاً منكم ، ثمّ أتى غطفان وقال لهم مثلَ الذي قاله لقريش وبذلك نجح فارسنا الملهم نُعيم بن مسعود رضي الله عنه في زرع بذور الفرقة والشك بينهم وأرجف بالأحزاب إرجافاً وتفرقت قلوبهم قبل تفرّق أجسادهم ، وذلك لأن الحرب خَدعة كما أخبر المصطفى عليه الصلاة  والسلام . 
ثم إن الله أرسل ريحاً شديدة فقلعت خيامهم وكفأت قدورهم وفرّقت متاعهم ، حتى كان الرجل منهم لايستطيع أن يهتدي إلى رحله فتفرقوا وشتت الله شملهم فأنزل الله آياتٍ تذكّر بنعمته يقول جلّ وعلا : ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . فكفى الله المؤمنين القتال ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزا ) . . أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .

=============== الخطبة الثانية ===============

الحمدلله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، والصلاة والسلام على من لانبي بعده ثم أما بعد : عبادالله : من يتأمل غزوة الأحزاب يجد أنه مامرّ على المسلمين أشد ولا أحلك من ظروفها وأحداثها من رعب أصابهم وخوف شديد حل بهم وفي ذلك يصف الله الموقف في سورة الأحزاب ، فيقول جلّ وعلا : ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ) . 
ومع ذلك فرّجها الله وجاء النصر من حيث لم يكن يُتوقع  
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها * فُرجت وكدت أظنها لاتُفرج 
ولهذا بشّر النبي صلى الله أصحابه وقال : " الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحنُ نسير إليهم " وهذا علمٌ من أعلام النبوة ، وآية من آيات الله تعالى فكان في غزواته كلِّها بعد غزوة الأحزاب يباغت العدو في بلده ، ولا يجرؤ أحدٌ أن يغزوه في المدينة إلى أن ظهر الإسلام في الجزيرة العربية وأسلم أغلب العرب ولله الحمد ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يأخذوا عمرة بعد غزوة الأحزاب إلا قالوا على الصفا والمروة بعد التهليل : " لاإله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " وصارت سنّة ماضية إلى يوم القيامة . 
وهكذا يأتي الفرج من الله والنصر والتمكين بعد الكرب والشدّة ولن يغلب عسرٌ يسرين ( فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يُسرا ) . . فهذه سنّة الله لاتتغير ولا تتبدل ، فالنصر له وقتٌ مكتوب وفيه يحل وينزل لايتقدم عن وقته ولا يتأخر ولكنّ أكثر الناس يستعجلون ، يبذلون القليل ويطلبون الكثير ولو تأملوا قول الله تعالى : ( .. ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم )  . 
عباد الله : مايجري في غزة والشام وغيرها من البلدان الإسلامية هو تكالبٌ وتحزّبٌ من أعداء الإسلام على حرب عباد الله المؤمنين وتهجير الكثير منهم ، ويظن هؤلاء الأعداء أن الله خاذلٌ لأوليائه ولن يمدَّهم بنصرهم ، وهم لايعلمون أنه مكرٌ بأعداء الله واستدراجٌ لهم وإن طال الزمن وطالت هذه الحروب ، فالله ليس بغافل عن مايعملون ، وسيبدو لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون فاللهم انصر دينك وأعز أولياءك واخذل أعداءك ياذا الجلال والإكرام . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليما : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) .  
 

السبت، 21 أكتوبر 2023

خطبة عن العفة والعفاف والطهر

 الحمدلله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا ، أحمده وهو أهل الحمد في الأرض والسماوات العلى ، وأثني عليه الخير كلَّه وهو القاهر على عرشه أعتلى ، وأصلي وأسلّم على خير الملا نبينا محمدٍ عليه وعلى آله وصحبه والكرام الأُلَى ، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم المعاد أما بعد : 

فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى وقاية من المعاصي والمنكرات جلّابٌ للعطايا والخيرات ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا )  

عباد الله : معنى من معاني الفضيلة والرفعة والنزاهة هو عنوان لمن اصطفاهم الله تعالى وشرفٌ للمؤمن وقدسية لنفوس المؤمنين أمر الله به وحذر من الطرق الموصلة لهدمه أو خدش جنابه أو تجفيف منابعه على نطاق الأسرة والمجتمع ألا وهو العفاف وأصل العفاف هو الكف عن مالايحل ويجمُل والعفاف بمعناه الواسع يُطلق على العفاف عن الحرام وأموال الناس وأعراضهم حتى العفاف عن الشبهات التي هي درجةٌ رفيعة أسعد الناس بها المتقون ، وإن أهم العفاف الذي ينبغي أن يعضّ عليه ابن آدم أن يحفظ نفسه من أن يقرب مواقع الخنا ويجتنب كل طريق يُوصل إلى الفاحشة والزنا وهو في شبابه حتى لايتدنس عِرْضُه بالرذيلة والحرام قبل الزواج وأن يُعجّل بالنكاح إن استطاع إلى ذلك سبيلاً ( وليستعفف الذين لايجدون نكاحاً حتى يُغنيَهم الله من فضله . . ) وقال جل وعلا في صفات المؤمنين ( والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانُهم فإنهم غير ملُومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) وقال جل وعلا : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) وتأمل قولَه  جل وعلا : " ولا تقربوا " ولم يقلْ ولا تفعلوا الزنا أو لاتزنوا ؛ لأن قربان الزنا وكل طريق يوصل إليه وإن لم يكن بشكلٍ مباشر هو من خطوات الشيطان فهو يتناول كلُ طريق من إطالة الحديث مع النساء والإختلاط والرسائل التي بها رموز غرامية ونحوِ ذلك ، ولذا قال جلا وعلا في سورة النور : ( يا أيها الذين آمنوا لاتتبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمُنكر . . ) . وكان من جُملة دعاءه عليه الصلاة والسلام : " اللهم إني أسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغِنى " ولعل أشهر قصة في العفاف ، قصة نبي الله يوسُفَ عليه السلام حينما همت به امرأة العزيز فعفّ وزكّاه الله ، كيف لا ؟ ! وهو نبي كريم له عند الله مقامٌ سامٍ ومنزلةٌ رفيعة ، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام  أنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، ومع كل ماأوتي يوسفَ عليه السلام من كرم نسب وعفّة نفس لم يركُن إلى عفته ونصيبه من الفضيلة ، بل كان يدعو عليه الصلاة والسلام ويقول : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهُن أصب إليهم وأكن من الجاهلين ) .  

عباد الله : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى  سنن الدارمي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحياء والعفاف والعي عي اللسان لاعي القلب والفقه من الإيمان ، وهن مما يزدن في الآخرة وينقصن في الدنيا "

عباد الله : إن من حفظ نفسه من الفواحش لحريّ أن يسود ويسوّد في الدنيا والآخرة وأما كرامة الله فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لاظل إلا ظلُّه جل وعلا : " رجلٌ دعته امرأة ذاتُ منصب وجمال فقال إني أخاف الله " وورد في العِقد الفريد لابن عبدربه أن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد رضي الله عنه يقول : " المروءة مروءتان : مروءةٌ ظاهرة ومروءة باطنة ، فالمروءة الظاهرة الرِّياش - أي اللباس - والمروءة الباطنة العفاف " وفي الآداب الشرعية لابن مُفلِح عن ابن عمر رضي الله عنه قال : " نحنُ معشر قُريش نعُدُّ الحِلم والجود السؤدد ، ونعدُّ العفاف وإصلاح المال المروءة " ويقول الشافعي رضي الله عنه : " الفضائل أربع : إحداها :  الحكمة وقِوامُها الفكرة ، والثانية : العفّة وقِوامُها الشهوة ، والثالثة : القوّة وقِوامُها الغضب ، والرابعة : العدل وقِوامُهُ في اعتدال قوى النفس " 

عباد الله : كان الكثير من العرب وهم في جاهليتهم من أعفّ الناس عن الأعراض والرذيلة لأن كثيرٌ منهم يعدون الزنا دناءة وسَفالَة ونقص مروءة ومما ورد في ذلك مارواه ابن عدالبر عن أبي حازم بن دينار قال : " كان أهل الجاهليّة أبرّ منكم ، هذا قائلهم قال - وهو مسكين الدارمي : 

ناري ونارُ الجار واحدةٌ * وإليه قبليْ يُنزلُ القدرُ

ماضرّ جاري إذ أُجاورُه * أن لايكون لُبابُه سترُ

أعمى إذا ماجارتي برزَت * حتى يُواري جارتي الخدرُ

ويقول عنترة بن شداد : وأغضُ طَرفي إن بدت لي جارتي * حتى يُواري جارتي مأواها 
ويقول بشار بن بُرد وهو بعدهم : 
وإنّي لعِفٌّ عن زيارة جارتي * وإنّي لمشنوءٌ إليّ اغتيابُها 
إذا غاب عنها بعلُها لم أكن لها * زؤوراً ولم تأنس إليّ كِلابُها 
ولم أك طلّاباً أحاديث سرِّها * ولا عالماً من أيّ حوكِ ثيابِها 
عباد الله : إن ثمار العفاف والعفة المخرج من الشدائد والمِحن وفي السنّة شاهد وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه في الثلاثة نفر الذين انطبقت عليهم الصخرة حينما آووا إلى الغار للمبيت فدعَوا الله بصالح أعمالهم وكان فيهم رجلٌ يحب ابنة عمّ ٍ له كأشدّ مايُحب الرجالُ النساء ، فأرادها عن نفسِها فامتنعت فألمت بها سنة من السنين فجاءته فأعطاها عشرين ومائة دينار على أن تُخلّي بينها وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرتُ عليها قالت : اتق الله ولاتفض الخاتم إلا بحقه ، فانصرف عنها وهي أحبُ الناس إليّه وترك الذهب الذي أعطاها لها  وقال : " اللهم إن كنت عملت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنّا مانحنُ فيه " فانفرجت الصخرة لما دعوُا الله جميعاً وخرجوا يمشون .
ومن ثمار العفة : سلامة العبد في دينه وأخلاقه وعرضه ، وهذا رأس مال العبد لأنه إذا فسد هؤلاء الثلاث فسد العبد وأفسد المجتمع . . فاللهم سلّم لنا ديننا وأعراضنا وأخلاقنا من المفسدات والدنايا يارب البرايا ياكريم العطايا ، أقول ماسمعتُم وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

================ الخطبة الثانية ================

الحمدلله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى الآل والصحب أجمعين ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين ، أما بعد : 
عباد الله : إن العفّة والفضيلة تُحارب في بلادنا وفي بلاد المسلمين عامّة ، والغرب يتربص بالأسرة المسلمة الدوائر ، فيُسلّط عليهم كل مجون وانحراف من خلال القنوات أو اللاهثين ورائها من خلال الجوالات ، وهذا ينبغي الحذر منه وتوجيه رب الأسرة لمن تحت يده من النساء والبنات خاصّة لأن المرأة مستهدفة من قِبل أعداء الأسلام من كل حدب وصوب ، لأنهم يعلمون أن الأسرة المسلمة لايُمكن أن تكونَ متماسكة صلبة  تُغيظ الأعداء إلا إذا كان المرأة - والتي هي قاعدة البيت - صالحة في نفسها مُصلحة لشؤون أولادها قائمة على تربيتهم بقيَم الفضيلة والنزاهة والصلاح والإستقامة ، وإذا تحقق ذلك استقامت الأسرة وأثمرت ثماراً يجنيه الوالدين فيما بعد . 
عباد الله : إن أكثر من يقف على قنوات الإفساد في العالم هم اليهود وكذلك أجهزة الإعلام فهم يسيطرون على الكثير منها حول العالم أجمع ولذلك ينظرون أنه لايمكن أن يسيطروا على الشعوب إلا بعد إفسادهم وجعلهم عبيداً للشهوات بداية من الفرد وكذلك الأسرة ونهاية بالمجتمع بأسره ، سعوا لضرب الدول بعضها ببعض ( كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لايُحب المفسدين ) فهم الذين أفسدوا المرأة الأوروبية االمسيحية لتي كان لباسها محتشماً قبل الثورة الفرنسية عن طريق عملاء لهم قبل حوالي قرنين من الزمان فخلعت الحجاب ولبست لباساً يكشف الشعر والوجه وبعض أجزاء الجسم ، مع أن الإنجيل أمرها بعدم كشف شعرها وحذرها من فتنة الرجال ، ولكنّه العمى والضلال ، ومن ثمّ انتقل اللبس الفاضح المهين للمرأة إلى الدول الأخرى وبهذا يشهد كُتّاب وساسة لديهم أن اليهود وعملائهم سببٌ لشيوع الرذيلة في المجتمعات الأوروبية ومن يُقارن بحجاب المرأة قبل مائة وخمسين سنة وبين حجابها اليوم في العالم أجمع يجد فرقاً شاسعاً وبوناً عظيماً ، ومن ثمّ بعد ذلك تأثر بعض العلمانيين الذي يعيشون في البلدان الإسلامية بهذا التحوّل الذي يعدونه نورانياً ، وأخذوا يبثونه في مجتمعاتٍ مسلمة ؛ فظهرت ثورات على الحجاب في بعض البلدان الإسلامية وأوقعت معها ضحايا يردن الحريّة - بزعمهن - فصار اللباس العاري منتشراً في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية ، واليوم يُحظَـر الحجاب في كثير من الدول الأوروبية والمرأة لديهم رخيصة يجرّونها إلى مواقع الرذيلة والخنا ، ولا تسل عن آثار فقد العفة في تلك المجتمعات وغيرها في الشرق والغرب من كثرة أبناء الزنا والرذيلة والشذوذ الجنسي ، وقتل النساء وانتشار الجريمة بسبب تلك الشهوات ، وكذلك الإنسان يكون ، إذا لم يكن له رادعٌ من دينٍ وخُلقٍ وعفة يكون كالبهيمة أجلّكم الله ( ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لايفقهون بها ولها أعينٌ لايبصون بها ولهم آذانٌ لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) .
ثم صلوا وسلموا على هادي البشرية وصاحب النفس الزكيّة فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين .

الأربعاء، 18 أكتوبر 2023

خطبة عن بني اسرائيل واليهود ومكرهم عبر التاريخ

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسِانٍ إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) . 
واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : عندما نقرأ كتاب الله جل وعلا نجد أنه تناول بني اسرائيل تناولاً طويلاً فذكر كثيراً من أخبارهم لأنهم أهل الكتاب قبلنا وبتفضيل الله لهم على أهل زمانهم وبنو اسرائيل هم ذرية يعقوب ويتناول اليهود والنصارى ، وكثيراً يُطلق على اليهود ممن كانوا قبل عيسى عليه السلام واختيار الله لهم على علمٍ وخِبرة وهو العليم الخبير وفيهم يقول جل وعلا ( ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين ) على عالَمي زمانهم ، وآتاهم من الآيات مالم يعطِ غيرَهم من الناس والأمم مافيه اختبار لهم وامتحان ومن أعظم ماأعطاهم ووهبهم أن أنزل عليهم مائدة من السماء فيها من أصناف الطعام  مافيها وفلق لهم البحر وظلل عليهم الغمام وهو السحاب وأنزل عليهم المنّ والسلوى فقال جل وعلا : ( وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات مارزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) وقال :( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) واشترطوا بعدما بعث الله إليهم موسى أنهم لن يؤمنوا بما جاء به موسى حتى يَروا الله جهرة - أي عياناً بأعينهم - فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بعد موتهم ، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى : ( وإذ قُلتُم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعهد موتكم لعلكم تشكرون ) وهذا أمر يندر حدوثه أن يحيي الله عبداً بعد موته وكم هي من نعمة أن يمهل الله العبد ولا يُعاجله بالعقوبة ليستعتب ويتوب وإلى ربه جل وعلا يؤوب . 
عباد الله : مع كل الآيات التي مرت على بني اسرائيل وعِظَم تلك الآيات إلا أنه كَفَرَ وفَسَقَ كثيرٌ منهم  كما قال جل وعلا : ( لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثيرٌ منهم ساء مايعملون ) وقال جل جلاله : ( ألم يأن للذي آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبُهم وكثيرٌ منهم فاسقون )  ومن أشنع جرمهم وأخبثه أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق ، فمن كان من الأنبياء لاتهواه أنفسهم إما أن يكفروا به وإما أن يقتلوه ، وقد قرّعهم الله بذلك حيث قال عز وجل : ( أفكلما جاءكم رسولٌ بما لاتهوى استكبرتم أنفُسُكم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتُلون ) . 
عباد الله : ولمّا كان من بني اسرائيل الصدود والإعراض عن الإيمان وخاصّة من اليهود عاقبهم الله بعقوبات منها : ضرْبُ الذلّة والمسكنة عليهم وهذا أمرٌ ظاهر جلي ، فتجدُ اليهود أجبنَ الناس وأقلَّهم شجاعة وعزة في الحروب والقتال ، ولذا قال الله عنهم : ( لايُقانلوكم جميعاً إلا في قرى محصّنةٍ أو من وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبُهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قومٌ لايعقلون )  ومن يتأمل حال اليهود بشكل عام لايجد أنهم خاضوا حرباً في القديم مع العرب ولا غيرهم من الأمم أبداً ، بل كانوا يعتمدون على غيرهم من الروم النصارى والفرس المجوس أو غيرهم من الأمم ، ولذلك يعيشون منعزلين منطوين يستنجدون النصرة من غيرهم على مدى التاريخ ، وهذا مُلاحظٌ  ظاهر حتى في وقتنا هذا . 
عباد الله : من أخبار بني اسرائيل التي قصها الله في كتابه على هذه الأمة ماورد في سورة الإسراء حيث قال الحق تبارك وتعالى : ( وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُن علوّاً كبيرا * فإذا جاء وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا * ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ) وقوله : " وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب " أي قدّم لهم في التوراة ذلك الخبر ، وهو الإفساد مرتين فالإفساد الأول أن بني اسرائيل لما وَلَوا بيت المقدس أفسدوا فيه فسلّط الله عليهم بختنصّر - الملك البابلي - فقتلهم شرّ قِتلة ، وقد أورد ابن جرير الطبري في تفسيره سنداً صحيحاً إلى سعيد بن المسيّب رحمه الله قال : " ظهر بختنصّر على الشام فخرّب بيت المقدس وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كِباً ، فسألهم ماهذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكِبا ظهر - أي كلما وُضع عليه من الكُناسة فلا يزول الدم بل يظهر عليه ، قال : فقتَل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم فسكن . 
وأما الإفساد الثاني : فاختُلف فيه فقيل العبادُ الذين سُلطوا على بني اسرائيل هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وقيل : غيرهم فالله أعلم ، والذي يهم أن بني اسرائيل سيحصل منهم الإفساد في الأرض وسيُسلط عليهم بسبب ذلك عدوّاً لهم لإعراضهم وعصيانهم ، وإن كان التسليط على اليهود خاصة وعدٌ من الله على مر السنين وفي ذلك يقول الله جل في عُلاه : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومُهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفورٌ رحيم ) . . أعاذ الله المسلمين من شرورهم وبغيهم ورد كيد الخائنين في نحورهم إنه هو المسؤول جل جلاله وإليه كل الأمور تؤول ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 
============= الخطبة الثانية =============
الحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد : 
عباد الله : كان اليهود وما يزالون أهلُ غدرٍ وخيانة وهذه صفة سائدة وسمة معروفة فيهم ، فمن يقرأ في السيرة يجد أنهم مايبرمون عهداً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وينقضونه ، ولذا قال الله عنهم : ( أوكلما عاهدوا عهدا ً نبذه فريقٌ منهم بل أكثرهم لايؤمنون ) ولذا كان إجلاؤهم من أرض الجزيرة العربية حلاً وأمراً إلهياً مقضيَّاً وكان ذلك الإجلاء من المدينة على مرحلتين في غزوة بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة حيث ارتكبوا جُرماً مع امرأة من المسلمين يريدون منها كشف وجهها فأبت فدبروا لها مكيدة بأن عقد رجلٌ منهم طرف ثوبها إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتُها فقام رجل من المسلمين فقتل الفاعل فقام اليهود فقتلوا المسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً أجلاهم وطردهم بعد ذلك إلى أذرعات في الشام . 
وأما الجلاء الثاني ففي غزوة بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة حيث دبّروا خطة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بإلقاء صخرة عليه وهومستندٌ إلى جدار أحد بيوتهم فجاء جبريل بالوحي فقام النبي عليه الصلاة والسلام من مكانه ، ومن ثمّ أرسل محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من المدينة ، ويُمهلهم عشرة أيام ليخرجوا ، فما كان منهم إلا أن رفضوا الخروج فقاد النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فحاصرهم في حصونهم ومن ثمَّ أخرجهم إلى خيبر وبعضهم ذهب للشام وبعضهم أسلم . 
وأما ماكان منهم في غزوة الأحزاب : فعندما خانوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة وكان حينها مابقي منهم إلا بنو قريظة ، حيث عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يحموا ظهره فغدروا به وأدخلوا المشركين إلى المدينة وبعدما انتهت الغزوة ، حَكَّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ فحكم فيهم أن تُقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم وتُغنم أموالهم ، وكانوا يتوقعون من سعد رضي الله عنه خلاف ذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " فقُتل في يوم واحد ستمائة من رجال اليهود ، وما بقي من اليهود في أرض الحجاز إلا ماكان في خيبر فأجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من خيبر إنفاذاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام  : " لايجتمع بجزيرة العرب دينان " . 
واليوم هؤلاء اليهود قد عاثوا في أرض بيت المقدس يقتلون ويشردون أهلها ظلماً وعدواناً وبغياً فتجب مناصرتهم والدعاء لهم ومواساتهم في غزة وغيرها من مدن فلسطين ، ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر . . ) كما أخبر الله وإن أقلّ ماتصنع - أخي المسلم - أن تجعل لهم من دعائك نصيباً على الدوام حتى يجلوا الله الغمة عن هذه الأمة بنصر الإسلام وأهله وتمكينهم في فلسطين والشام واليمن وفي كل مكان إنه ولي ذلك والقادر عليه . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . . 
  

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...