إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح لأمة حتى تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غُلفا أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنكم قادمون عليه ومقبلون إليه فأعدوا لذلك واستعدوا وحاسبوا وتحسبوا وإلى ربكم ارغبوا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفـّى كل نفس ماكسبت وهم لايُظلمون ) .
عباد الله : يجري في عصرنا مصطلح يُسمّى المواطنة ، وهو مصطلحٌ عصري حادث يجهله أو يجهل حقوقه وأهدافه كثير من الناس فماهو هذا المفهوم ؟ وما هو هي أهدافه وماهي حقوق المواطنة التي بينها الشرع استقلالاً أو ضمناً وتباعاً في مقتطفات من كتاب ربنا وسُنة نبينا عليه الصلاة والسلام ولعلنا نعرّج على هذا المفهوم بتوابعه في خطبتنا هذه بشيء من التفصيل :
فالمواطنة هي : مأخوذة من الوطن وهو " مكان الإلف والعيش " ويعني ذلك المصطلح بأنه التعايش بسلام في بلدٍ عشت وترعرت فيه مع القريب والبعيد المخالط لك في موطنك ومجتمعك ، وقد تطلق بعض مشتقاته على الأماكن والديار مثل قول الله تعالى : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ " .
وحب الديار والوطن أمرٌ فطري وغريزة مطبوعة في الإنسان لايُلام عليها ، ولكن يُلام على تقديم حبّها على محبة الله ورسوله وجهادٍ في سبيله كما قال الله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين ) وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ممن يحبون ديارهم وأوطانهم ، ومما يذكّر بذلك قول نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه المشركون من بلده مكة وهي مولده ومرباه وكان فيها نشأته ومسراه فوقف في الحزورة في سوق مكة وقال : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت " أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء وصححه الكثير من أهل العلم .
ولكن حب الأنبياء لأوطانهم ومرابعهم وحتّى أهليهم لايُقدمونه على مراد الله ورضاه مهما كان فيهم من الشوق لتلك الأوطان والديار والبلدان والأقطار فقد كان خليل الرحمن ابراهيم ممن عاش وترعرع في العراق فلمّا رأى عناد قومه واستكبارهم وإيذائهم له خرج منها إلى أرض الشام ثم لبيت المقدس وماحوله وذلك قول الله تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجرٌ إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) وكذلك لوطٌ عليه السلام فقد قال الله عنهما : ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) فكلاهما هاجرا من أرض العراق إلى الشام طلباً لمرضاة الله ومفارقة للمشركين على حبهم للعراق التي كانت مرباهم ومقرّهم وكذلك موسى عليه السلام أمر قومه بأمرٍ من الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي هي أرض فلسطين بما فيها بيت المقدس ويتركوا أرض مصر ويستوطنوا تلك الأرض المباركة - أي بيت المقدس وماحوله - فقال : ( ياقومي ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خائبين ) فأبوا وتوفي موسى بعد ذلك ناوياً للهجرة في سيناء بعد أن أدى ماعليه وجاهد بني اسراءيل أعظم المجاهدة طلباً لمرضاة ربه ورضاه وغيرهم من الأنبياء .
عباد الله : ومن أجل ذلك كان من أعظم حقوق المواطنة عدم إخراج أهل الأرض منها بغير حق حتى لو اختلف دينهم ماداموا ملتزمين بالعهد والميثاق المبرم من ولي الأمر ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل مُعاهدا ًلم يرح رائحة الجنّة " أخرجه البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم ، ولذا وجب الإلتزام بما أمر به ولي الأمر في هذا الشأن فعهده عهدٌ للمسلمين كلهم وذمته ذمتهم ، ولذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل نفساً مُعاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة ) وذمة ولي الأمر مبنية على ذمة الله ورسوله بما خوّله به الشرع المطهر .
عباد الله : قد نقل ابن اسحاق في السيرة أول بنود معاهدة أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبن من خلالها بالجملة أو ولي الأمر يحل له أن يُعاهد أهل الكتاب والمشركين بما فيه صالحٌ للمؤمنين وتلك المعاهدة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار كطرف وبين اليهود من بني اسراءيل ومن عشائر الأنصار والمشركين منهم كطرف آخر ومن بنود المعاهدة كما نُقل :
* أنهم أمة واحدة من دون الناس
* أن كل طائفة من المهاجرين من قريش وعشائر الأنصار تفدي عانيها
* أن من قَتَل من أي طائفة كان فإن الجميع عليه ولو كان ولد أحدهم
* أن لايُسالم البعض دون الآخر
* أنه لايحل لمؤمن ولا غيرُه أن يؤوي مُحدثاً بأي حال
* أنه عند الخلاف فالمرد لله ورسوله عليه الصلاة والسلام دون أحد من الناس ، وهذا يدل على أن من أولويات حقوق المواطنة الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين عند وجود الخلاف بين أفراد المجتمع المسلم ، يقول الحق تبارك وتعالى : ( فلا وربك لايؤمنون حتى يُحكّموك في ما شجر بينهم ثمّ لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً ) .
* أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ويتفقون معهم ماداموا مُحاربين ، وهذا دليل على اقرارهم ببلدهم ماداموا يُدافعون عنه مع المسلمين ، لاأن يُستعان بهم في الحروب وقد وقع ذلك من بعض اليهود الذين حاربوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد فقد قُتل في أحد رجلٌ من اليهود اسمه " مخيريق " دفاعاً عن المدينة ونصراً لرسول الله وأنه قال لذويه : " إن قُتلت أو إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ماشاء " كما ذكره ابن هشام في السيرة النبويه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه " مخيريق خير يهود " وكذلك رجل من المشركين قُتل واسمه " قزمان " قاتل يوم أحدٍ ولكن لحساب قومه لالله ولا رسوله وعندما قيل له : " أبشر قزمان " قال : " بم أُبشر وأنا ماقاتلت إلا لحساب قومي " وما نفعه ذلك ، والذي يخصنا منهم هو وفائهم بالعهد وعدم خيانتهم وتخاذلهم لكي يُوفى لهم بما يحفظ أهليهم وأموالهم .
* أن من ظلم لايُهلك إلا نفسه وأهل بيته
* أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة
* وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم - وهذا من حقوق المواطنة في القريب
* وأن لايُجار كفار قريش ولا من نصرهم ولا أموالهم
* وأن بينهم النصر على من دهم يثرب - وهذا من أعظم حقوق المواطنة في رد كيد العدو المتربص والغازي على بلاد الإسلام .
* وأن الموالي وهم العبيد كغيرهم - وهذا من حقوق المواطنة وهو المساواة بين أفراد الوطن الواحد
* وأن لايُقتل مؤمنٌ في كافر ولايُنصر كافرٌ على مؤمن - وهذا من باب المماثلة والمعاقبة بالمثل فلو أن اليهود ظفروا وحكموا لما قتلوا يهودياً بمسلم ولفضلوه عليه وكذلك يُعامل أهل الذمة بذلك وديننا دين العزة والأنفة والرفعة والهيمنة وكما ورد في الحديث : " الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه " .
عباد الله : ومن حقوق المواطنة كف الأذى عموماً بكل أشكاله وصوره من كل طبقة وشريحة وطائفة في المجتمع فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فليس من المواطنة في شريحة الموظفين مثلاً أن يقصّر الرجل في عمله الواجب عليه ويعتذر إذا نُصح بأعذار واهية ، وليس من المواطنة في شريحة الطلاب طالب تناول الأثاث المدرسي بالعبث بتلك المقدرات والمرافق الخاصة والعامة وتشويهها بالكتابة والإفساد اللامبرر حتى صارت بعض المرافق والمقتنيات لايستفاد منها بعد مستخدمها السابق ، وكل ذلك عبث وشغب له توابعه على الطالب والدارس وليس من المواطنة أن تُفسد المرأة جيلاً ناشئا ولو كانوا كان بإمكانها أن تتولاه بنفسها وتربيه في محاضن الأسرة ، ولا توليه لخادمة تخالف في الدين والعادات وذلك يُعدّ خيانة لهذا الطفل البريء الناشئ ، وليس من المواطنة مايفعله بعض المسؤولين في الصحة أو في الخدمات البلدية من التفريط في الرقابة على العاملين أو على المنشئات الخاصة أو العامة والتواكل على ذمة الغير الذي ربما خان وأفسد منتهزاً ضعف الرقابة أو عدم تواجدها ، وعلى المسؤول في ذلك اللوم وعدم التواكل في حال وتقوية الرقابة في أثناء تلك الظروف التي تخصّ المواطن أو المقيم ، وليس من المواطنة أن يكون المواطن والمستهلك للسلع عموماً لقمة سائغة للتجار وأرباب الأعمال الجشعين والطامعين في سلب الأموال من جيوب المواطنين في مقابل سلع رديئة بعضها يُعرض للموت أو الحريق أو الإنفجار المدمر والخطير الذي لايمكن تداركه ، جنبنا الله وإياكم الشرور والأخطار ورزقنا مغفرة الغفار .
أقول قولي هذا فإن كان صواباً فمن الله وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============ الخطبة الثانية ============
الحمدلله أهل الثناء والمحامد له ذو الفضل الكريم الماجد السلام المؤمن الواحد والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وإمام المتقين نبينا محمد ذوالنهج القويم الراشد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله وأيقــنوا أن فضل الله ونعـمتَه علينا لاتُعد ولا تُحصى وأن نعمة الله ودوامَها علينا لايتم إلا بالشكر والثناء على الله بما هو أهله وكذلك بالقيام بما أوجب الله سبحانه علينا من الفرائض والمأمورات وكذلك باجتناب ماحرّم من المحارم والمنهيات مع أداء الحقوق التي من جملتها حقوق المواطنة والمجاورة والتعايش، وإن وجود نعمة الله ودوامُها يحتّم علينا القيام بمثل ذلك وأدائه على الوجه الأكمل ليدوم الفضل من الله ويزيد وعند ربنا من الأفضال المزيد ، لننعم بمجتمع آمن ووطن معطاء يُدرّ لنا الخير في كل يوم تشرق شمسه وفي كل ليلة تعسعس بظلامها ، وإن هذا الهدف العظيم هو من أعظم أهداف المواطنة التي يسعى لها الحر العاقل والمفكر البصير والحاكم والمحكوم والراعي والرعيّه ، فلا يوجد رجل من العقلاء وأولي الألباب وحتّى من دونهم في الغالب أنه يتمنى زوال هذه النعمة ليحلّ بدلها الخوف والضياع والتفرقة والإنشقاق والفقر والتشرد وما إلى ذلك ، فإذا علمنا هذا ووعيناه وجب علينا أن القيام بمقومات الحياة السعيدة الآمنة واجتناب كل مايعكر صفوها ليدوم الخير والأمن ويُعبد الله في الأرض بأمان واطمئنان وتقوم الشعائر عالية شامخة يحرص عليها الكهل والشاب ويُحج البيت وتطمئن النفس وتؤمن الدروب وهذا هدفٌ آخر من أهداف المواطنة لايقوم المجتمع بأدائها بدون تحقيقه ، والمعادلة في ذلك هو وزن مثلُ هذا الأمر بميزان الله وسنته القائمة المطّردة في كل وطن وجيل ومجتمع قائم كما قال الله تعالى : ( وضرب الله قرية كانت آمنة ًمطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .
فيجنب على العباد أن لاينجروا وراء الشهوات والتر ف وأن يمنعوا من يجر أفراد المجتمع لذلك وعليهم أن ياخذوا على يد الظالم بمناصحته ومنعه من الإعتداء والعدوان إن استطاعوا أو الإبلاغ عنه ، فقد يصدر من عوام المسلمين مايكون فتنة للجميع ، والعمل في ذلك يتمثّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) فقال رجلٌ : أنصره إن كان مظلوماً أفرايت إن كان ظالماً قال :
( تحجزه وتمنعه من الظلم فإن ذلك نَصره ) أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه وفي رواية : " تكفّه عن الظلم " وعند مسلم رواية أخرى من حديث جابر قال فيها : " إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نُصره " . والمقصود من ذلك : أن الولاء التي هي لُحمة من المواطنة تكون لإخواننا من المؤمنين والمسلمين بشكل عام حتى لو كانوا ظلمةً فيكون في صفهم معنوياً ، ولايُساعدهم على ظلمهم بل ينهاهم عنه وهذا على عدوهم الكافر والمشرك لاعلى بعضهم البعض فإن ذلك منهيٌ عنه أشد النهي وهو من البغي المحرم فالمسلمون أعراضهم وأموالهم ودمائهم بينهم حرام ، والله أمرهم بالتواضع والرحمة بينهم والتعاطف والمواساة ومثّلهم بالجسد الواحد فقال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلّم : " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحدٌ على أحد ولايبغي أحدٌ على أحد " ولذلك يحقق قول الله تعالى في المجتمع المسلم المحافظ ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين ) فذكر السّلم الذي هو الإسلام لاكما يظن البعض أن ذلك المقصود هو النداء بالمسالمة في الحرب ، ولكن المقصود هو الدخول في الإسلام فروعه وأصوله ومن أصول الإسلام المسالمة في الأوطان وكفّ الأذى عامّة والإحسان إلى الناس ، وقد ورد في ذلك قراءة أُخرى بكسر السين أي " السِّلم " فيكون المقصود بها المسالمة والمصالحة مع الناس في الحرب وهذا المعنى وإن كان غير مرجّح فهو من معاني الإسلام الذي هو الإستسلام لله بالتوحيد وبما يأمر وينهى والإذعان له والإنقياد سبحانه وتعالى ، ولايُنكر على أحدٍ مادام إذا اختاره مادام أنه فُسّر الشيء ببعض معانيه ، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علقدينا فنضلّ ياذا الجلال والإكرام ، وأرشدنا لسبل مرضاتك وطريق الجنّة دار السلام ، وجنبنا المنكرات والآثام ، ياقدوس ياسلام ياحي ياقيوم . .
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . .
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنكم قادمون عليه ومقبلون إليه فأعدوا لذلك واستعدوا وحاسبوا وتحسبوا وإلى ربكم ارغبوا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفـّى كل نفس ماكسبت وهم لايُظلمون ) .
عباد الله : يجري في عصرنا مصطلح يُسمّى المواطنة ، وهو مصطلحٌ عصري حادث يجهله أو يجهل حقوقه وأهدافه كثير من الناس فماهو هذا المفهوم ؟ وما هو هي أهدافه وماهي حقوق المواطنة التي بينها الشرع استقلالاً أو ضمناً وتباعاً في مقتطفات من كتاب ربنا وسُنة نبينا عليه الصلاة والسلام ولعلنا نعرّج على هذا المفهوم بتوابعه في خطبتنا هذه بشيء من التفصيل :
فالمواطنة هي : مأخوذة من الوطن وهو " مكان الإلف والعيش " ويعني ذلك المصطلح بأنه التعايش بسلام في بلدٍ عشت وترعرت فيه مع القريب والبعيد المخالط لك في موطنك ومجتمعك ، وقد تطلق بعض مشتقاته على الأماكن والديار مثل قول الله تعالى : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ " .
وحب الديار والوطن أمرٌ فطري وغريزة مطبوعة في الإنسان لايُلام عليها ، ولكن يُلام على تقديم حبّها على محبة الله ورسوله وجهادٍ في سبيله كما قال الله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين ) وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ممن يحبون ديارهم وأوطانهم ، ومما يذكّر بذلك قول نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه المشركون من بلده مكة وهي مولده ومرباه وكان فيها نشأته ومسراه فوقف في الحزورة في سوق مكة وقال : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت " أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء وصححه الكثير من أهل العلم .
ولكن حب الأنبياء لأوطانهم ومرابعهم وحتّى أهليهم لايُقدمونه على مراد الله ورضاه مهما كان فيهم من الشوق لتلك الأوطان والديار والبلدان والأقطار فقد كان خليل الرحمن ابراهيم ممن عاش وترعرع في العراق فلمّا رأى عناد قومه واستكبارهم وإيذائهم له خرج منها إلى أرض الشام ثم لبيت المقدس وماحوله وذلك قول الله تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجرٌ إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) وكذلك لوطٌ عليه السلام فقد قال الله عنهما : ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) فكلاهما هاجرا من أرض العراق إلى الشام طلباً لمرضاة الله ومفارقة للمشركين على حبهم للعراق التي كانت مرباهم ومقرّهم وكذلك موسى عليه السلام أمر قومه بأمرٍ من الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي هي أرض فلسطين بما فيها بيت المقدس ويتركوا أرض مصر ويستوطنوا تلك الأرض المباركة - أي بيت المقدس وماحوله - فقال : ( ياقومي ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خائبين ) فأبوا وتوفي موسى بعد ذلك ناوياً للهجرة في سيناء بعد أن أدى ماعليه وجاهد بني اسراءيل أعظم المجاهدة طلباً لمرضاة ربه ورضاه وغيرهم من الأنبياء .
عباد الله : ومن أجل ذلك كان من أعظم حقوق المواطنة عدم إخراج أهل الأرض منها بغير حق حتى لو اختلف دينهم ماداموا ملتزمين بالعهد والميثاق المبرم من ولي الأمر ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل مُعاهدا ًلم يرح رائحة الجنّة " أخرجه البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم ، ولذا وجب الإلتزام بما أمر به ولي الأمر في هذا الشأن فعهده عهدٌ للمسلمين كلهم وذمته ذمتهم ، ولذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل نفساً مُعاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة ) وذمة ولي الأمر مبنية على ذمة الله ورسوله بما خوّله به الشرع المطهر .
عباد الله : قد نقل ابن اسحاق في السيرة أول بنود معاهدة أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبن من خلالها بالجملة أو ولي الأمر يحل له أن يُعاهد أهل الكتاب والمشركين بما فيه صالحٌ للمؤمنين وتلك المعاهدة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار كطرف وبين اليهود من بني اسراءيل ومن عشائر الأنصار والمشركين منهم كطرف آخر ومن بنود المعاهدة كما نُقل :
* أنهم أمة واحدة من دون الناس
* أن كل طائفة من المهاجرين من قريش وعشائر الأنصار تفدي عانيها
* أن من قَتَل من أي طائفة كان فإن الجميع عليه ولو كان ولد أحدهم
* أن لايُسالم البعض دون الآخر
* أنه لايحل لمؤمن ولا غيرُه أن يؤوي مُحدثاً بأي حال
* أنه عند الخلاف فالمرد لله ورسوله عليه الصلاة والسلام دون أحد من الناس ، وهذا يدل على أن من أولويات حقوق المواطنة الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين عند وجود الخلاف بين أفراد المجتمع المسلم ، يقول الحق تبارك وتعالى : ( فلا وربك لايؤمنون حتى يُحكّموك في ما شجر بينهم ثمّ لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً ) .
* أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ويتفقون معهم ماداموا مُحاربين ، وهذا دليل على اقرارهم ببلدهم ماداموا يُدافعون عنه مع المسلمين ، لاأن يُستعان بهم في الحروب وقد وقع ذلك من بعض اليهود الذين حاربوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد فقد قُتل في أحد رجلٌ من اليهود اسمه " مخيريق " دفاعاً عن المدينة ونصراً لرسول الله وأنه قال لذويه : " إن قُتلت أو إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ماشاء " كما ذكره ابن هشام في السيرة النبويه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه " مخيريق خير يهود " وكذلك رجل من المشركين قُتل واسمه " قزمان " قاتل يوم أحدٍ ولكن لحساب قومه لالله ولا رسوله وعندما قيل له : " أبشر قزمان " قال : " بم أُبشر وأنا ماقاتلت إلا لحساب قومي " وما نفعه ذلك ، والذي يخصنا منهم هو وفائهم بالعهد وعدم خيانتهم وتخاذلهم لكي يُوفى لهم بما يحفظ أهليهم وأموالهم .
* أن من ظلم لايُهلك إلا نفسه وأهل بيته
* أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة
* وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم - وهذا من حقوق المواطنة في القريب
* وأن لايُجار كفار قريش ولا من نصرهم ولا أموالهم
* وأن بينهم النصر على من دهم يثرب - وهذا من أعظم حقوق المواطنة في رد كيد العدو المتربص والغازي على بلاد الإسلام .
* وأن الموالي وهم العبيد كغيرهم - وهذا من حقوق المواطنة وهو المساواة بين أفراد الوطن الواحد
* وأن لايُقتل مؤمنٌ في كافر ولايُنصر كافرٌ على مؤمن - وهذا من باب المماثلة والمعاقبة بالمثل فلو أن اليهود ظفروا وحكموا لما قتلوا يهودياً بمسلم ولفضلوه عليه وكذلك يُعامل أهل الذمة بذلك وديننا دين العزة والأنفة والرفعة والهيمنة وكما ورد في الحديث : " الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه " .
عباد الله : ومن حقوق المواطنة كف الأذى عموماً بكل أشكاله وصوره من كل طبقة وشريحة وطائفة في المجتمع فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فليس من المواطنة في شريحة الموظفين مثلاً أن يقصّر الرجل في عمله الواجب عليه ويعتذر إذا نُصح بأعذار واهية ، وليس من المواطنة في شريحة الطلاب طالب تناول الأثاث المدرسي بالعبث بتلك المقدرات والمرافق الخاصة والعامة وتشويهها بالكتابة والإفساد اللامبرر حتى صارت بعض المرافق والمقتنيات لايستفاد منها بعد مستخدمها السابق ، وكل ذلك عبث وشغب له توابعه على الطالب والدارس وليس من المواطنة أن تُفسد المرأة جيلاً ناشئا ولو كانوا كان بإمكانها أن تتولاه بنفسها وتربيه في محاضن الأسرة ، ولا توليه لخادمة تخالف في الدين والعادات وذلك يُعدّ خيانة لهذا الطفل البريء الناشئ ، وليس من المواطنة مايفعله بعض المسؤولين في الصحة أو في الخدمات البلدية من التفريط في الرقابة على العاملين أو على المنشئات الخاصة أو العامة والتواكل على ذمة الغير الذي ربما خان وأفسد منتهزاً ضعف الرقابة أو عدم تواجدها ، وعلى المسؤول في ذلك اللوم وعدم التواكل في حال وتقوية الرقابة في أثناء تلك الظروف التي تخصّ المواطن أو المقيم ، وليس من المواطنة أن يكون المواطن والمستهلك للسلع عموماً لقمة سائغة للتجار وأرباب الأعمال الجشعين والطامعين في سلب الأموال من جيوب المواطنين في مقابل سلع رديئة بعضها يُعرض للموت أو الحريق أو الإنفجار المدمر والخطير الذي لايمكن تداركه ، جنبنا الله وإياكم الشرور والأخطار ورزقنا مغفرة الغفار .
أقول قولي هذا فإن كان صواباً فمن الله وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============ الخطبة الثانية ============
الحمدلله أهل الثناء والمحامد له ذو الفضل الكريم الماجد السلام المؤمن الواحد والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وإمام المتقين نبينا محمد ذوالنهج القويم الراشد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله وأيقــنوا أن فضل الله ونعـمتَه علينا لاتُعد ولا تُحصى وأن نعمة الله ودوامَها علينا لايتم إلا بالشكر والثناء على الله بما هو أهله وكذلك بالقيام بما أوجب الله سبحانه علينا من الفرائض والمأمورات وكذلك باجتناب ماحرّم من المحارم والمنهيات مع أداء الحقوق التي من جملتها حقوق المواطنة والمجاورة والتعايش، وإن وجود نعمة الله ودوامُها يحتّم علينا القيام بمثل ذلك وأدائه على الوجه الأكمل ليدوم الفضل من الله ويزيد وعند ربنا من الأفضال المزيد ، لننعم بمجتمع آمن ووطن معطاء يُدرّ لنا الخير في كل يوم تشرق شمسه وفي كل ليلة تعسعس بظلامها ، وإن هذا الهدف العظيم هو من أعظم أهداف المواطنة التي يسعى لها الحر العاقل والمفكر البصير والحاكم والمحكوم والراعي والرعيّه ، فلا يوجد رجل من العقلاء وأولي الألباب وحتّى من دونهم في الغالب أنه يتمنى زوال هذه النعمة ليحلّ بدلها الخوف والضياع والتفرقة والإنشقاق والفقر والتشرد وما إلى ذلك ، فإذا علمنا هذا ووعيناه وجب علينا أن القيام بمقومات الحياة السعيدة الآمنة واجتناب كل مايعكر صفوها ليدوم الخير والأمن ويُعبد الله في الأرض بأمان واطمئنان وتقوم الشعائر عالية شامخة يحرص عليها الكهل والشاب ويُحج البيت وتطمئن النفس وتؤمن الدروب وهذا هدفٌ آخر من أهداف المواطنة لايقوم المجتمع بأدائها بدون تحقيقه ، والمعادلة في ذلك هو وزن مثلُ هذا الأمر بميزان الله وسنته القائمة المطّردة في كل وطن وجيل ومجتمع قائم كما قال الله تعالى : ( وضرب الله قرية كانت آمنة ًمطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .
فيجنب على العباد أن لاينجروا وراء الشهوات والتر ف وأن يمنعوا من يجر أفراد المجتمع لذلك وعليهم أن ياخذوا على يد الظالم بمناصحته ومنعه من الإعتداء والعدوان إن استطاعوا أو الإبلاغ عنه ، فقد يصدر من عوام المسلمين مايكون فتنة للجميع ، والعمل في ذلك يتمثّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) فقال رجلٌ : أنصره إن كان مظلوماً أفرايت إن كان ظالماً قال :
( تحجزه وتمنعه من الظلم فإن ذلك نَصره ) أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه وفي رواية : " تكفّه عن الظلم " وعند مسلم رواية أخرى من حديث جابر قال فيها : " إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نُصره " . والمقصود من ذلك : أن الولاء التي هي لُحمة من المواطنة تكون لإخواننا من المؤمنين والمسلمين بشكل عام حتى لو كانوا ظلمةً فيكون في صفهم معنوياً ، ولايُساعدهم على ظلمهم بل ينهاهم عنه وهذا على عدوهم الكافر والمشرك لاعلى بعضهم البعض فإن ذلك منهيٌ عنه أشد النهي وهو من البغي المحرم فالمسلمون أعراضهم وأموالهم ودمائهم بينهم حرام ، والله أمرهم بالتواضع والرحمة بينهم والتعاطف والمواساة ومثّلهم بالجسد الواحد فقال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلّم : " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحدٌ على أحد ولايبغي أحدٌ على أحد " ولذلك يحقق قول الله تعالى في المجتمع المسلم المحافظ ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين ) فذكر السّلم الذي هو الإسلام لاكما يظن البعض أن ذلك المقصود هو النداء بالمسالمة في الحرب ، ولكن المقصود هو الدخول في الإسلام فروعه وأصوله ومن أصول الإسلام المسالمة في الأوطان وكفّ الأذى عامّة والإحسان إلى الناس ، وقد ورد في ذلك قراءة أُخرى بكسر السين أي " السِّلم " فيكون المقصود بها المسالمة والمصالحة مع الناس في الحرب وهذا المعنى وإن كان غير مرجّح فهو من معاني الإسلام الذي هو الإستسلام لله بالتوحيد وبما يأمر وينهى والإذعان له والإنقياد سبحانه وتعالى ، ولايُنكر على أحدٍ مادام إذا اختاره مادام أنه فُسّر الشيء ببعض معانيه ، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علقدينا فنضلّ ياذا الجلال والإكرام ، وأرشدنا لسبل مرضاتك وطريق الجنّة دار السلام ، وجنبنا المنكرات والآثام ، ياقدوس ياسلام ياحي ياقيوم . .
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . .