الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

خطبة عن المواطنة وحقوقها وأهدافها

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح لأمة حتى تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غُلفا أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أنكم قادمون عليه ومقبلون إليه فأعدوا لذلك واستعدوا وحاسبوا وتحسبوا وإلى ربكم ارغبوا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفـّى كل نفس ماكسبت وهم لايُظلمون ) . 
عباد الله : يجري في عصرنا مصطلح يُسمّى المواطنة ، وهو مصطلحٌ عصري حادث يجهله أو يجهل حقوقه وأهدافه كثير من الناس فماهو هذا المفهوم ؟ وما هو هي أهدافه وماهي حقوق المواطنة التي بينها الشرع استقلالاً أو ضمناً وتباعاً في مقتطفات من كتاب ربنا وسُنة نبينا عليه الصلاة والسلام ولعلنا نعرّج على هذا المفهوم بتوابعه في خطبتنا هذه بشيء من التفصيل : 
فالمواطنة هي : مأخوذة من الوطن وهو " مكان الإلف والعيش " ويعني ذلك المصطلح بأنه التعايش بسلام في بلدٍ عشت وترعرت فيه مع القريب والبعيد المخالط لك في موطنك ومجتمعك ، وقد تطلق بعض مشتقاته على الأماكن والديار مثل قول الله تعالى : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ " . 
وحب الديار والوطن أمرٌ فطري وغريزة مطبوعة في الإنسان لايُلام عليها ، ولكن يُلام على تقديم حبّها على محبة الله ورسوله وجهادٍ في سبيله كما قال الله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين ) وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ممن يحبون ديارهم وأوطانهم ، ومما يذكّر بذلك قول نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه المشركون من بلده مكة وهي مولده ومرباه وكان فيها نشأته ومسراه فوقف في الحزورة في سوق مكة وقال : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت " أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء وصححه الكثير من أهل العلم . 
ولكن حب الأنبياء لأوطانهم ومرابعهم وحتّى أهليهم لايُقدمونه على مراد الله ورضاه مهما كان فيهم من الشوق لتلك الأوطان والديار والبلدان والأقطار فقد كان خليل الرحمن ابراهيم ممن عاش وترعرع في العراق فلمّا رأى عناد قومه واستكبارهم وإيذائهم له خرج منها إلى أرض الشام ثم لبيت المقدس وماحوله وذلك قول الله تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجرٌ إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) وكذلك لوطٌ عليه السلام فقد قال الله عنهما : ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) فكلاهما هاجرا من أرض العراق إلى الشام طلباً لمرضاة الله ومفارقة للمشركين على حبهم للعراق التي كانت مرباهم ومقرّهم وكذلك موسى عليه السلام أمر قومه بأمرٍ من الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي هي أرض فلسطين بما فيها بيت المقدس ويتركوا أرض مصر ويستوطنوا تلك الأرض المباركة - أي بيت المقدس وماحوله - فقال : ( ياقومي ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خائبين ) فأبوا وتوفي موسى بعد ذلك ناوياً للهجرة في سيناء بعد أن أدى ماعليه وجاهد بني اسراءيل أعظم المجاهدة طلباً لمرضاة ربه ورضاه وغيرهم من الأنبياء . 
عباد الله : ومن أجل ذلك كان من أعظم حقوق المواطنة عدم إخراج أهل الأرض منها بغير حق حتى لو اختلف دينهم ماداموا ملتزمين بالعهد والميثاق المبرم من ولي الأمر ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل مُعاهدا ًلم يرح رائحة الجنّة " أخرجه البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم ، ولذا وجب الإلتزام بما أمر به ولي الأمر في هذا الشأن فعهده عهدٌ للمسلمين كلهم وذمته ذمتهم ، ولذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل نفساً مُعاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة ) وذمة ولي الأمر مبنية على ذمة الله ورسوله بما خوّله به الشرع المطهر . 
عباد الله : قد نقل ابن اسحاق في السيرة أول بنود معاهدة أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبن من خلالها بالجملة أو ولي الأمر يحل له أن يُعاهد أهل الكتاب والمشركين بما فيه صالحٌ للمؤمنين وتلك المعاهدة كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار كطرف وبين اليهود من بني اسراءيل ومن عشائر الأنصار والمشركين منهم كطرف آخر ومن بنود المعاهدة كما نُقل : 
* أنهم أمة واحدة من دون الناس 
* أن كل طائفة من المهاجرين من قريش وعشائر الأنصار تفدي عانيها 
* أن من قَتَل من أي طائفة كان فإن الجميع عليه ولو كان ولد أحدهم 
* أن لايُسالم البعض دون الآخر 
* أنه لايحل لمؤمن ولا غيرُه أن يؤوي مُحدثاً بأي حال 
* أنه عند الخلاف فالمرد لله ورسوله عليه الصلاة والسلام دون أحد من الناس ، وهذا يدل على أن من أولويات حقوق المواطنة الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين عند وجود الخلاف بين أفراد المجتمع المسلم ، يقول الحق تبارك وتعالى : ( فلا وربك لايؤمنون حتى يُحكّموك في ما شجر بينهم ثمّ لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً ) . 
* أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ويتفقون معهم ماداموا مُحاربين ،  وهذا دليل على اقرارهم ببلدهم ماداموا يُدافعون عنه مع المسلمين ، لاأن يُستعان بهم في الحروب وقد وقع ذلك من بعض اليهود الذين حاربوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد فقد قُتل في أحد رجلٌ من اليهود اسمه " مخيريق " دفاعاً عن المدينة ونصراً لرسول الله وأنه قال لذويه : " إن قُتلت أو إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ماشاء " كما ذكره ابن هشام في السيرة النبويه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه " مخيريق خير يهود "  وكذلك رجل من المشركين قُتل واسمه " قزمان " قاتل يوم أحدٍ ولكن لحساب قومه لالله ولا رسوله وعندما قيل له : " أبشر قزمان " قال : " بم أُبشر وأنا ماقاتلت إلا لحساب قومي " وما نفعه ذلك ، والذي يخصنا منهم هو وفائهم بالعهد وعدم خيانتهم وتخاذلهم لكي يُوفى لهم بما يحفظ أهليهم وأموالهم . 
* أن من ظلم لايُهلك إلا نفسه وأهل بيته 
* أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة 
* وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم - وهذا من حقوق المواطنة في القريب 
* وأن لايُجار كفار قريش ولا من نصرهم ولا أموالهم  
* وأن بينهم النصر على من دهم يثرب - وهذا من أعظم حقوق المواطنة في رد كيد العدو المتربص والغازي على بلاد الإسلام . 
* وأن الموالي وهم العبيد كغيرهم - وهذا من حقوق المواطنة وهو المساواة بين أفراد الوطن الواحد 
* وأن لايُقتل مؤمنٌ في كافر ولايُنصر كافرٌ على مؤمن - وهذا من باب المماثلة والمعاقبة بالمثل فلو أن اليهود ظفروا وحكموا لما قتلوا يهودياً بمسلم ولفضلوه عليه وكذلك يُعامل أهل الذمة بذلك وديننا دين العزة والأنفة والرفعة والهيمنة وكما ورد في الحديث : " الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه " . 
عباد الله : ومن حقوق المواطنة كف الأذى عموماً بكل أشكاله وصوره من كل طبقة وشريحة وطائفة في المجتمع فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فليس من المواطنة في شريحة الموظفين مثلاً أن يقصّر الرجل في عمله الواجب عليه ويعتذر إذا نُصح بأعذار واهية ، وليس من المواطنة في شريحة الطلاب طالب تناول الأثاث المدرسي بالعبث بتلك المقدرات والمرافق الخاصة والعامة وتشويهها بالكتابة والإفساد اللامبرر حتى صارت بعض المرافق والمقتنيات لايستفاد منها بعد مستخدمها السابق ، وكل ذلك عبث وشغب له توابعه على الطالب والدارس وليس من المواطنة أن تُفسد المرأة جيلاً ناشئا ولو كانوا كان بإمكانها أن تتولاه بنفسها وتربيه في محاضن الأسرة ، ولا توليه لخادمة تخالف في الدين والعادات وذلك يُعدّ خيانة لهذا الطفل البريء الناشئ ، وليس من المواطنة مايفعله بعض المسؤولين في الصحة أو في الخدمات البلدية من التفريط في الرقابة على العاملين أو على المنشئات الخاصة أو العامة والتواكل على ذمة الغير الذي ربما خان وأفسد منتهزاً ضعف الرقابة أو عدم تواجدها ، وعلى المسؤول في ذلك اللوم وعدم التواكل في حال وتقوية الرقابة في أثناء تلك الظروف التي تخصّ المواطن أو المقيم ، وليس من المواطنة أن يكون المواطن والمستهلك للسلع عموماً لقمة سائغة للتجار وأرباب الأعمال الجشعين والطامعين في سلب الأموال من جيوب المواطنين في مقابل سلع رديئة بعضها يُعرض للموت أو الحريق أو الإنفجار المدمر والخطير الذي لايمكن تداركه ، جنبنا الله وإياكم الشرور والأخطار ورزقنا مغفرة الغفار . 
أقول قولي هذا فإن كان صواباً فمن الله وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 
============ الخطبة الثانية ============
الحمدلله أهل الثناء والمحامد له ذو الفضل الكريم الماجد السلام المؤمن الواحد والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء  وإمام المتقين نبينا محمد ذوالنهج القويم الراشد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله وأيقــنوا أن فضل الله ونعـمتَه علينا لاتُعد ولا تُحصى وأن نعمة الله ودوامَها علينا لايتم إلا بالشكر والثناء على الله بما هو أهله وكذلك بالقيام بما أوجب الله سبحانه علينا من الفرائض والمأمورات وكذلك باجتناب ماحرّم من المحارم والمنهيات مع أداء الحقوق التي من جملتها حقوق المواطنة والمجاورة والتعايش، وإن وجود نعمة الله ودوامُها يحتّم علينا القيام بمثل ذلك وأدائه على الوجه الأكمل ليدوم الفضل من الله ويزيد وعند ربنا من الأفضال المزيد ، لننعم بمجتمع آمن ووطن معطاء يُدرّ لنا الخير في كل يوم تشرق شمسه وفي كل ليلة تعسعس بظلامها ، وإن هذا الهدف العظيم هو من أعظم أهداف المواطنة التي يسعى لها الحر العاقل والمفكر البصير والحاكم والمحكوم والراعي والرعيّه ، فلا يوجد رجل من العقلاء وأولي الألباب وحتّى من دونهم في الغالب أنه يتمنى زوال هذه النعمة ليحلّ بدلها الخوف والضياع والتفرقة والإنشقاق والفقر والتشرد وما إلى ذلك ، فإذا علمنا هذا ووعيناه وجب علينا أن القيام بمقومات الحياة السعيدة الآمنة واجتناب كل مايعكر صفوها ليدوم الخير والأمن ويُعبد الله في الأرض بأمان واطمئنان وتقوم الشعائر عالية شامخة يحرص عليها الكهل والشاب ويُحج البيت وتطمئن النفس وتؤمن الدروب وهذا هدفٌ آخر من أهداف المواطنة لايقوم المجتمع بأدائها بدون تحقيقه ، والمعادلة في ذلك هو وزن مثلُ هذا الأمر بميزان الله وسنته القائمة المطّردة في كل وطن وجيل ومجتمع قائم كما قال الله تعالى : ( وضرب الله قرية كانت آمنة ًمطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) . 
فيجنب على العباد أن لاينجروا وراء الشهوات والتر ف وأن يمنعوا من يجر أفراد المجتمع لذلك وعليهم أن ياخذوا على يد الظالم بمناصحته ومنعه من الإعتداء والعدوان إن استطاعوا أو الإبلاغ عنه ، فقد يصدر من عوام المسلمين مايكون فتنة للجميع ، والعمل في ذلك يتمثّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) فقال رجلٌ : أنصره إن كان مظلوماً أفرايت إن كان ظالماً قال : 
( تحجزه وتمنعه من الظلم فإن ذلك نَصره ) أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه وفي رواية : " تكفّه عن الظلم " وعند مسلم رواية أخرى من حديث جابر قال فيها : " إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نُصره " . والمقصود من ذلك : أن الولاء التي هي لُحمة من المواطنة تكون لإخواننا من المؤمنين والمسلمين بشكل عام حتى لو كانوا ظلمةً فيكون في صفهم معنوياً ، ولايُساعدهم على ظلمهم بل ينهاهم عنه وهذا على عدوهم الكافر والمشرك لاعلى بعضهم البعض فإن ذلك منهيٌ عنه أشد النهي وهو من البغي المحرم فالمسلمون أعراضهم وأموالهم ودمائهم بينهم حرام ، والله أمرهم بالتواضع والرحمة بينهم والتعاطف والمواساة ومثّلهم بالجسد الواحد فقال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلّم : " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحدٌ على أحد ولايبغي أحدٌ على أحد " ولذلك يحقق قول الله تعالى في المجتمع المسلم المحافظ ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين ) فذكر  السّلم الذي هو الإسلام لاكما يظن البعض أن ذلك المقصود هو النداء بالمسالمة في الحرب ، ولكن المقصود هو الدخول في الإسلام فروعه وأصوله ومن أصول الإسلام المسالمة في الأوطان وكفّ الأذى عامّة والإحسان إلى الناس ، وقد ورد في ذلك قراءة أُخرى بكسر السين أي " السِّلم " فيكون المقصود بها المسالمة والمصالحة مع الناس في الحرب وهذا المعنى وإن كان غير مرجّح فهو من معاني الإسلام الذي هو الإستسلام لله بالتوحيد وبما يأمر وينهى والإذعان له والإنقياد سبحانه وتعالى ، ولايُنكر على أحدٍ مادام إذا اختاره مادام أنه فُسّر الشيء ببعض معانيه ، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علقدينا فنضلّ ياذا الجلال والإكرام ، وأرشدنا لسبل مرضاتك وطريق الجنّة دار السلام ، وجنبنا المنكرات والآثام ، ياقدوس ياسلام ياحي ياقيوم . . 
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . 







الجمعة، 7 سبتمبر 2018

خطبة عن دعاء المضطر والمكروب وإجابة الله لعبده

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا فبلغ وأدى ماعليه صلوات الله عليه وسلامنا إليه ولواء الحمد يوم الدين بين يديه وهو الشافع المشفع ذو المقام الأرفع عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاماً يدوم أبداً وينفع إلى يوم ٍ تحشر فيه العباد وتجمع أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله فالدين هو التقوى في السر والنجوى وفي العافية والبلوى ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الذين الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) .
أيها الإخوة المؤمنون : إن من عرف ربه جل جلاله وعلم أسمائه وصفاته علم أن من أسماءه السميع والمجيب والقريب ، وأنه سبحانه يسمع دعاء الداعين وابتهال المنيبين المخبتين ويجيب دعاء المضطرين والمكروبين وهو قريبٌ ممن دعاه مجيب لمن توسل به ولجأ إليه يقول نبي الله صالحٌ عليه الصلاة والسلام : "واستغفروا ربكم ثمّ توبوا إليه إن ربي قريبٌ مجيب"
وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى : " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجلعكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ماتذكرون " وقال أيضاً : " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لامبدل لكلماته وهو السميع العليم " ، وقال أيضاً : " وله ماسكن في الليل والنهار وهو السميع العليم " وكل ذلك يدلل ويدل أن الله تبارك وتعالى وأن خزائنه ملأى لايغيظها نفقة - أي لايُنقصها ماينفق مهما كان ذلك الطلب ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى قال : " حدثنا أبواليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يد الله ملأى لايغيظها نفقة سحّـــاء الليل والنهار " وقال : " أرأيتم منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض - أي يُنقص مافي يده " وقال : " عرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع " .
وفي الحديث القدسي الطويل الذي أخرجه مسلم بن الحجاج القُـشيري النيسابوري عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عايه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى أنه قال جل جلاله وعظمت أوصافه وعمّ نواله قال : " ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ، مانقص ذلك مما عندي إلا كما يَنقص المخيط إذا أدخل البحر " .
ومع هذه الأوصاف لله سبحانه يغفل الكثير في الرخاء وفي الشدة أن يدعو الله تعالى ويلجأ إليه في أحواله كلها ، وربنا يُدعى في أمر الدنيا وأمر الآخرة ومما يدلّل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أويحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " وفي الحديث الآخر : "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " .
عباد الله : إن أنبياء الله ورسله كانوا هم أكثر الناس دعاءا ً وابتهالا ً وتضرعاً في الخفاء والسر والإعلان والجهر فهم يمتثلون قول الله تعالى : " ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين " وهم أصبر الناس وأحلم البشر وكان من أحلمهم اسماعيل عليه السلام الذي قال الله عنه : " فبشرناه بغلام ٍحليم " وكان أبونا ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم من أحلم أنبياء الله ، فقد قال سبحانه عن ابراهيم عليه السلام : " إن ابراهيم لحليمٌ أواهٌ منيب " وكان من حلم نبينا محمد أن صفح عن كفار قريش وصناديدهم في وقت قدرته عليهم وقال حين فتح مكة في مشهدٍ شهده الناس وسارت به الركبان وقال لهم كلمة دونها التاريخ " اذهبوا فأنتم الطلقاء " وهم الذين أخرجوه من مكة وحاولوا قتله ، وقتلوا أصحابه ، وطاردوه وآذوه حينما كان في مكة ، ومع ذلك كله أطلقهم وعفا عنهم جميعاً ، وصار مضرب المثل في الحلم والصبر عليه الصلاة والسلام ، وعندما تتذكر حلم أنبياء الله تعالى ، تتذكر حلم الله تعالى على عباده وعلى العُصاة والمجرمين وأنه أمهلهم طويلاً حتى مابقي لهم ايمان ووصلوا لحد السخرية والإستهزاء وطلبوا من أنفسهم سرعة الإنتقام ومعالجة العقوبة ، ومن أسماءه " الصبور" ومعناه الذي لايُعاجل بالعقوبة بل يمهل ويرفق بخلقه ، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاأحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل ، إنه يُشرك به ويُجعل له الولد ومع ذلك هو يعافيهم ويرزقهم " .
عباد الله : لقد أمهل الله الكفرة والمجرمين من قوم نوح امهالاً أيس معه نوح ودعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ومع ذلك لم يؤمن إلا القليل بعد أن دعاهم وجادلهم وألح عليهم بالإيمان حتى دخل نوح اليأس من ايمان هؤلاء ، وأتاه الوحي من الله حيث قال سبحانه : " وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يعملون " وأمره الله بصناعة الفلك وهي السفينة الضخمة ونجاه الله وقومه وماجرى مع نوح جرى مع هودٍ وصالح ومن بعدهم من قرون كثيرة لايعلمهم إلا الله وجرى مع شعيب ، كلهم دعَوا أقوامهم طويلاً ولم يؤمنوا حتى يئس الرسل يأساً عظيماً ، وابتُلوا بأقوامهم بلاءً صبروا عليه مرضاة لله تعالى ، (حتى إذا استئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجي من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين ) . 

أيها الإخوة المسلمون : وإن من صور إمهال الله لعباده إمهال الله لفرعون وقومه الطغاة المعتدين ( الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد ) ومن طُغيانهم وعدوانهم أنهم كانوا يقتلون الأطفال الصغار من بني اسرائيل ، ويستحيون ويستبقون النساء للخدمة والعمل عليهم لعائن الله ، وذلك عملٌ مافعله أحدٌ قبل فرعون وقومه ، وهو بلاء عظيم وخطبٌ جسيم ، لو كان ذلك عند العرب لثاروا كلُهم انتصاراً للمظلوم على الظالم ، فقضية العرض عند العرب خاصة لايُماثلها ولا يًرادفها كلمة لعظمة العرض خاصّة في نفوسهم ، ومع ذلك قدّر الله على بني اسرائيل ماقدّر لإعراضهم عن دين الله ، ولكي يستكثر هؤلاء الطغاة من دماء وأعراض الناس فيأخذهم أخذة رابية لارجوع بعدها ، ولذا يقول الحق تبارك وتعالى : (( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزداوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين )) وإذا أتى عقابه سبحانه فلا يُرد عن القوم المجرمين ، ولا يقبل في ذلك الشفاعات مهما كانت منازل الشافعين ، سواءً من الأنبياء أو الملائكة المُقربين ، واستمرّ طغيان فرعون وقومه زمناً طويلا ً ، من قبل بعثة موسى ومن بعد بعثته ، ومن حلم الله على هؤلاء الطغاة على فظاعة جرمهم أن أمهلهم طويلا ً، وأرسل عليهم من الآيات مالو أرسله إلى حجارة أو على جمادٍ لآمن ، فقال جل في ملكه وتدبيره : ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يذّكرون ) واتهموا موسى وأخاه هارون بالسحر والكهانة وقالوا لموسى قولاً طاغياً فقالوا : ( مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ) ومع ذلك أمهلهم الله تعالى وحلمَ عليهم فلم يعاجلهم بعذابه وزادهم من الآيات مافيه بلاءٌ لهم وامتحان فقال سبحانه: ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آياتٍ مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين ) ومع ذلك كلّه لم يؤمنوا ولم يُصدقوا بتلك الآيات العظيمة التي أُرسلت ، مع أنها لم تُرسل لأقوام قبلهم ممن ذكرهم الله تعالى ، فاللهم أعذنا من الخذلان وشر الجحود والكفران ياذا الجلال والإكرام ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيم ٌودود . 

============ الخطبة الثانية ============
الحمدلله ناصر المتقين ومجيبِ السائلين وهادِ الخلق أجمعين ، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين فبلغ عن الله آياته ونصح له في خلقه وبرياته ، وأتمّ لله مابلغه من قوله ورسالاته وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ممن يؤمن بالله وكلماته أما بعد : 

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن نصر الله ومعيتَه مع المتقين والمؤمنين (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) والنصر - ياعباد الله - لايأتي إلا بعد صبرٍ واصطبار وتقوى لله الواحد القهار وابتلاء ٍوامتحان من العزيز المنان يقول الحق تبارك وتعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّــا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسأء والضراء وزُلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريبٌ ) وكان ذلك أيضاً بعد دعاء الأنبياء على أقوامهم ، ولذا كان نصر موسى وقومه على فرعون وحزبه ، جاء بعد دعاء موسى عليه حين قال : ( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) فجاء الردّ من العزيز الجبار القوي القهار : ( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعانّ سبيل الذين لايعلمون ) وكل ذلك أتى بعد تمحيصٍ عظيم نال الفريقين واستبان في ذلك سبيل المجرمين ، واستعجل القوم نقمة رب العالمين ، وجاء النصر والعذاب للظلمة الفجار الخونة الأشرار فقال الحق تبارك وتعالى في الآيات : ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متّبعون * فارسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمةٌ قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميعٌ حاذرون * فأخرجناهم من جنّات وعيون * وكنوزٍ ومقامٍ كريم * كذلك وأورثناها بني اسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلمّـا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهوالعزيز الرحيم ) وانتهت فصول تلك القصة من المعاناة من بني اسرائيل والنصر لهم في الختام وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، وقد قال من رحمته قبل ذلك : ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون ) وكل ذلك من رحمة الله ويكفينا من تلك القصة عبرةً أنك مهما حرصت وفكرّت وحذرت وعملت وقررت ونفذت  ، فالله إذا أراد أمراً فلا ينفع ذلك الحذر ولا تلك الترتيبات والإحتياطات مهما كان تعقيدها وقوتها ودهائها فمن المعروف أن هلاك فرعون وقومه وقع من طفلٍ تربّى في بيت فرعون وفي رزقه الذي رزقه الله ، على حرص فرعون على قتل كل طفلٍ وقعت عليه يدي فرعون وقومه بسبب رؤيا منام رآها ومفادها : " أن ذهاب ملكه يكون على يد طفلٍ يولد من بني اسرائيل " ومع ذلك كله قدّر الله لهذا الطفل أن يتربّى في عقر دار طاغية مصر ويكون هلاكه وذهاب ملكه في النهاية على يديه ، وذلك اليوم يومٌ من أيام الله الذي أعز الله به أولياءه وقهر فيه أعداءه وهو يوافق العاشر من شهر الله المحرم في كل عام ويوافق بذلك يوم الخميس القادم ، ومن العجب في ذلك أن أهل الجاهلية وهم أهل ضلال من قريش وغيرهم كانوا يصومون يوم عاشوراء ، وكان ذلك قبل أن يُفرض صيام شهر رمضان كما روى البخاري ومسلم رحمنا الله وإياهم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وأنه لما فُرض رمضان قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من شاء صامه ومن شاء تركه "  ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه ويتحرى صيامه ، ولكم في رسول الله أسوة حسنة وأخبر أن صيامه يكفر ذنوب سنة ماضية فقد روى مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال : " يكفّر السنة الماضية "  ويستحب أن يصوم معه التاسع وقد كان النبي يتمنى أن يبقى لعام قادم لكي يصوم التاسع ولكنّ أجله وافاه قبل ذلك ، فمن صام اليوم التاسع والعاشر فقد نال ثواباً عظيماً ، فتقربوا إلى الله بصيام هذين اليومين الذين هما آكد أيام شهر الله المحرم ، اللهم اهدنا لأفضل الأعمال وأكمل العبادات والأقوال وارض عنّا قبل حلول الآجال ياذا الجلال والإكرام . . هذا وصلوا وسلموا على النبي المختار وصفوة الأخيار . . 

الخميس، 6 سبتمبر 2018

خطبة عن طلب العلم وبداية العام الدراسي


الحمدلله الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم ، أحمده وهو الأعز الأكرم وأشكره على ماتفضل به وأنعم ، والصلاة والسلام على النبي المعظم والرسول المكرم وعلى آله وصحبه أهل الفضائل والمغنم ومن نهج نهجهم واقتفى أثرهم وعلينا معهم مافاهت الأفواه بالكلم وسلم تسليماً كثيرا أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله فمن اتقى الله خشيه وأناب وعن كل ذنب رجع وتاب : " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " " ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويُكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم " .
عباد الله : قد روي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وأصل ذلك الحديث قطعة من حديث رواه كثير بن قيس عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، ونصّه يقول كثير : " كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله في مسجد دمشق ، فجاءه رجلٌ فقال : ياأبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنّك تُحدّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماجئت لحاجة ، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طُرق الجنّة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهما ً وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " وهذا الحديث من أصح الأحاديث أخرجه أهل السنن الأربعة والإمام أحمد في مسنده .
عباد الله : العناية بالعلم ونشره وتعليمه وحث النشء عليه وتقوية عزائمهم وشد هممهم من أجله من أعظم الطاعات وأرفع المقامات عند الله خصوصاً ونحن نعيش بداية عامٍ دراسي جديد يُمضي فيه الدارسون والباحثون عدة أشهر متواصلة يجتهدون فيه ويجنون من ثمار العلم والمعرفة الكثير والكثير ، ويكون للطالب والمعلم والمسؤول المخلص في ذلك عظيم الأجر والمثوبة إذا صلُح قصدُه ونيته ، وحثّ من تحت يديه وأخلص في النصح والتوجيه والتعليم والإفادة فهو على ثغرٍ حافل بالأجور والمثوبة إذا عمل بكل جدّ واجتهاد مع مجاهدة النية وتخليصها من كل شهوة تصرف عن الهدف الأسمى والمنشود وهو التعليم والإصلاح وكل ذلك معروضٌ على الله ورسوله والمومنين ، يقول الحق تبارك وتعالى : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " ، وهذه وقفة ٌ مع حال سلفنا الصالح الذي ذهبوا ومضوا إلى ربهم نستلهم من حالهم العبرة والعظة ونتذكر بذلك شأنهم مع طلب العلم والبذل في سبيله الكثير من الأوقات والساعات والتفاني ومجاوزة الصعاب لنيل المآرب وطلب العلم والحديث حتى يعرٍِف كل طالب لعلم ودارس وقارئ وباحث من صغير أو كبير مامدى النعمة التي نعيشها في زمننا هذا ، ومامدى وفرة الخدمات والوسائل التعليمية بين أيدينا ، ومع ذلك تفوّق ذلك الجيل علينا في الفهم والحفظ والعلم والإستنباط وكل ذلك لخور الهمم وسقوط العزائم في أفراد أمتنا وفي بني جيلنا فالله المستعان وعليه التكلان وصار حال البعض من هؤلاء كما قال الشاعر :
فلم يطرق من الخيرات بابٌ * ولم يرقى إلى طلب المعالي
وصيّر للجهـــــالة كل دربٍ * وصار بهيمة في كل حـــالِ
عباد الله : ومما يُذكر عن حال رجال من السلف رحمهم الله مانقله الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام ابن عساكر رحمه الله قال ولده المحدّث بهاء الدين القاسم : " لم يشتغل - أي ابن عساكر - منذ أربعين سنة إلا بالتسميع والجمع حتى في نُزهِه وخلواته  " .
ودخل الطبيب على الإمام أبي بكر بن الأنباري رحمه الله وهو في مرض موته فنظر الطبيب إلى بوله - أكرمكم الله - ثم قال له : " قد كنت - أي أيام الصحة والقوة - تفعل شيئا ً لايفعله أحد ، ثم خرج الطبيب إلى أقارب الأنباري وقال لهم : " مايجيء منه شيء - أي أنه ميئوس منه فلا ينفعه الدواء - فدخلوا على أبي بكر بن الأنباري وأخبروه وقالوا له : " ماكنت تفعل ؟ " فقال لهم : " كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة " . وقال الذهبي في ترجمة النووي رحمه الله تعالى : " وذكر تلميذه أبو الحسن بن العطار أن الشيخ محيي الدين - أي النووي - صاحب ( رياض الصالحين) ذكر له أنه كان يقرأ في اليوم اثناعشر درساً على مشائخه شرحاً وتصحيحا ً ، قال : " وكنت أعلّق جميع مايتعلق بها ، من شرح مُشكل ووضوح عبارة وضبط لغة وبارك الله في وقتي " ثم قال الذهبي : " قال أبو الحسن بن العطار : ذكر لي شيخنا - أي النووي - أنه كان لايضيع له وقتاً في ليلٍ ولا في نهار إلا بالإشتغال بالعلم ، حتى في الطريق يكرّر أو يُطالع ، وأنه دام على هذا ست سنين ، وكان لايأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد العشاء الآخرة ويشرب شربة واحدة عند السحر ، وكان لايأكل الفواكه والخضار ويقول : " أخاف يرطّّب جسمي ويجلب لي النوم " .
وعن أبي العبّاس بن المبرّد قال : " لم أرى أحرص على العلم من ثلاثة : الجاحظ والفتح بن خاقان والقاضي اسماعيل بن اسحاق ، فأما الجاحظ فكان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره ، حتّى أنه كان يكتري - أي يستأجر دكاكين الورّاقين - وهي المكتبات - ويبيت فيها للنظر في الكتب ، وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمّه فإذا قام من مجلس الخليفة للبول أو للصلاة أخرج الكتاب فنظر فيه ، وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يُريده ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى مجلسه ، وأما القاضي اسماعيل بن اسحاق فإني مادخلت عليه قطّ إلا وفي يده كتابٌ ينظر فيه ، أو يُقلّب الكتب بحثا ًعن كتاب يقرؤه أو يُنفّض الكتب - أي يُزيل عنها الغبار - ومن أعظم وأشد مارُوي في ذلك ماروي عن ابن خراش رحمه الله أنه قال : " شربت بولي أثناء الرحلة في طلب العلم خمس مرات " فاللهم اعف عنه وعن من اضطر لمثل ذلك
ومما رُوي عن البخاري رحمه الله أنه قال : " تأخّرت نفقتي حتى جعلت أتناول حشيش الأرض وأنا في طلب العلم " .
عباد الله : ومن جلدهم في ذلك أيضاً مارواه أبا اسحاق المرادي قال : " جاورت الحافظ المنذري رحمنا الله وإياه ثنتي عشرة سنة ، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء المصباح في بيته وهو مشتغلٌ بالعلم حتى كان في حال الأكل وهو والكتب عنده يشتغل فيها "
وكان الكثير منهم رحمهم الله يُكثرون القراءة في الكتب ويديمون الإطلاع فيها ، وطلابنا اليوم لديهم من النشاط والفراغ وكافة الوسائل ماتُعينهم على طلب الفائدة والظفر بالعلم الشرعي أولاً وبعلوم الدنيا والعلوم الأخرى ثانيا ، ومع ذلك عن طلب  العلم يعجزون وعن الحرص عليه يضعُفون ويكسِلون ، وللراحة والترف يطلبون ، تقاصرت بهم الهمم ، وتخاذلت وتناقصت عزائمهم ، وكان طمعهم فيما لاينفعهم ، أوليس أهل الدنيا عنها يبحثون ولها يبتغون ، فلعمر الله إن طلب رضا الله بالعلم والبحث عن مرضاته عن طريق السبل الموصلة إليه لهو أولى لطالب الآخرة ومبتغٍ لدار النعيم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين وكل ذلك لايتحصل إلا بطلب العلم الموصل إلى الخشية " إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيزٌ غفور " أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من الخطايا والأوزار فاستغفروه يغفر لكم إنه هو العزيز الغفار .


============ الخطبة الثانية ============

الحمدلله العزيز العليم الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على الرسول الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أكثر صلاة وأزكى تسليم أما بعد :

فاتقوالله عباد الله ، واذكروا نعمة الله عليكم بتعليمكم مالا تعلمون من الكتاب والحكمة وسائر العلوم والفنون ، وذكر نعم الله تعالى وحمده يُعد شكراً وثناءا ً على الله بما هو أهله واعتراف بالنعمة ومقابلة للمنعم بالذكر والشكران لاالجحد والكفران كما قال العزيز المنان : " كما أرسلنا فيكم رسولا ً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " .
عباد الله : ومما يزيد من البصيرة في الدين ويقوي اليقين ويقرّب لله رب العالمين كثرة مطالعة الكتب الشرعية التي تُعالج الأخطاء في دين العبد وتقوي الإيمان وتقوّم السلوك وتنير البصائر وتهدي للطريق القويم المستقيم ، وتكرار ذلك يُفيد ويجمع الخير الذي لايتأتّى إلا بكثرة المطالعة والتكرار وإدامة النظر والإطلاع لمخزون العلم المجموع والمزبور في تلك الكتب ، ولهذا كان بعض السلف يقول : " كنت أطالع الرسالة للشافعي وأكرر ذلك ، وكنت كل مرة أكرر فيه المطالعة أخرج بفائدة غير مسبوقة ، وعلمٍ مستجد لم أتحصل عليه من قبل " ولهذا كانوا يكررون النظر في الكتب طويلاً ويتلذذون في ذلك ويستمتعون ويتنعمون في ذلك غاية النعيم في هذه الدنيا ووالله لقد كان حالهم في ذلك عجباً ، ومما كان من ذلك أنه رُوي عن بعض المحدثين أنه قرأ صحيح البخاري رحمنا الله وإياه تسعين مرّة ، ورُوي عن المزّي صاحب الشافعي عليهم وعلينا مرضاة الله تعالى أنه قرأ الرسالة للشافعي سبعين مرّة ، ومما روي عن النووي صاحب رياض الصالحين أنه حُكي عنه أنّه طالع كتاب الوسيط للغزالي أربعمائة مرّة ، وقد حُكي عن الشيخ ابن باز أنه قرأ أو قُرئ عليه شرح النووي لصحيح مسلم رحمه الله ثلاثين مرة ، بل إنه ذُكر من أخبار العلماء المنحرفين في العقيدة من أصحاب الصنعة والطب كابن سينا الفيلسوف أنه قرأ كتاب " ماوراء الطبيعة " لأرسطوا الفيلسوف اليوناني أربعين مرّة ، وحُكي أيضا عن بعض المستشرقين أنه قرأ كتاب الأغاني للأصفاني - وهو كتاب أدب وشعر- قرأه عشرين مرّة ، والمستشرق في اصطلاح العلماء هو : العالم من الغرب الكافر الذي يبحث في الدين الإسلامي ويكثر الإطلاع فيه من أجل النقد والدس فيه والكذب والتلبيس على المسلمين في أمور دينهم وتاريخهم لامن أجل الفائدة والعلم ، وخلاصة القول في ذلك كلّه أن العبد المؤمن سواء كان أبا ًكبيرا أو ناشئا من شباب أمتنا أو أماً أو بنتاً أو خادماً أو غير ذلك كلهم مطالبون برفع الجهل عنهم ، ومن ظنّ أنه بتخرجه من الجامعة أو الثانوية أن مرحلة وخط السير في طلب العلم أنه انتهى فقد أخطأ ، والعلم لاينتهي والناس فيه مابين مقلّ ومكثر ، والعلم عموماً إن أعطيته كلك أعطاك بعضه ، وهذه مقولة سالفة درج عليها الكثير والكثير من السلف الصالح والتابعين ومن تبعهم ، وحسبك من ذلك مجالس الذكر إن كَسلت أو عجزت أو انشغلت ، ففي مجالس الذكر من الخير ورفع الجهل وطرح العلم وبذله ونزول الرحمة وحفّ الملائكة ماغفل عنه الكثير من الناس وانشغلوا عنه ، فاللهم لاتحرمنا فضلك بسبب تقصيرنا ولا تستبدلنا بغيرنا وأعنا على كل خير يُنال وكل فلاح ورشد وأصلح لنا جميع الأحوال ووفقنا وألهمنا رشدنا وقنا شرّ أنفسنا ياجواد ياكريم ياقريب يامجيب . 







خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...