الخميس، 10 يناير 2019

خطبة عن عذاب القبر ووحشته

الحمدلله المبدئ المعيد الفعّال لما يريد ذو الركن الشديد والحكم الرشيد والصلاة والسلام على من أرسله الله للعبيد فأبان لهم سُبل النجاة بالقول السديد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وعلينا معهم إلى يوم المزيد أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى خير زادٍ ليوم المعاد ولقاء رب العباد ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتًنّ إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ مُحدثةٍ في دين الله بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . 
عباد الله : لقد أمرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام بالإستعاذة في آخر الصلاة من أربع من عذاب جهنّم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجّال أو من شرّ فتنة المسيح الدجّال ، والقبر هو أول منازل الآخرة فإن سعد فيه الميّت فما بعده فنعيم وحبور وأما إن شقي فيه الميّت فما بعده أشقّ وأعسر وأنكى وأشدّ وقد ورد ذلك في قول الحبيب المصطفى عليه السلام : " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منهُ فما بعد أيسر منه ، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدّ منه " رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه وحسّنه بعض أهل العلم ، حتى لو كان عذاب القبريكفّر بعض الذنوب ولكن لايكفّر الذنوب كلّها وقد ورد تكفير الذنوب بعذاب القبر عن شيخ الإسلام رحمه الله فقد قال في الفتاوى عند ذكر الأسباب التي تزول بها الذنوب عن العبيد قال : " مايحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يُكفّرُ به الخطايا " وهذا لايُنافي كون مابعد عذاب القبر عسير شديد لمن شقي في قبره نسأل الله السلامة والعافية .

عباد الله : الإيمان بعذاب القبر من عقيدة الفرقة الناجية التي لانجاة لها إلا بالإيمان به ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة وعذاب القبر مقرّر في كتاب الله تعالى حيث يقول سبحانه في عذاب قوم نوح : ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراًُ فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) والفاء للتعقيب الفوري وذلك أنهم عندما أغرقوا فأدخلوا مباشرة للجحيم وهم في قاع تلك المياه وذلك حين ضرب الطوفان الأرض في عهد نوحٍ عليه السلام ، وقال أيضا ًفي قوم فرعون : ( النار يُعرضون عليها غدوّا ًوعشيّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب ) فلمّا أُغرقوا دخلوا الجحيم وذلك كان حين غرقهم فقامت عليهم قيامتهم وبدؤا يُعذبون في النار من ساعة الغرق وأجسادهم في جوف البحر حينها ، وبعض العلماء من المفسرين يفسّر " سجّـين" الوارد في سورة المطففين في قوله تعالى : ( كلّا إن كتاب الفجار لفي سجين ) بأن سجين الأرض السابعة السُفلى فيها أرواح الكفار تُعذّب وأعمالهم فيها يُعذّبون بسببها وأورد ذلك الطبري في تفسيره " جامع البيان في تأويل آي القرآن " واختار هذا القول وروى ذلك بسنده عن قتاده وابن عباس والضّحاك وابن زيد وكعب القُرظي وغيرهم وروى بسنده حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال في نفس الفاجر - أجارنا الله وإياكم قال : " فيصعدون بها فلا يمرّون ببها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ماهذا الروح الخبيث - أو الروح الخيثه - ؟ قال : فيقولون فلان بأقبح اسمائه التي يُسمّى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فلا يُفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاتُفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجمل في سمّ الخياط . . ) الآيه فيقول الله : " اكتبوا كتابه في أسفل الأرض في سجّين في الأرض السُفلى " وفي رواية مفادها أن روحه تُطرح طرحاً وقد ذُكر مثل ذلك عند قول الله تعالى : ( ومن يُشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق ) .
عباد الله : ومن أشهر الأحاديث في وقوع عذاب القبر حديثٌ رواه ابن عبّاس رضي الله عنه وعن أبيه الذي رواه البُخاري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على حائط من حيطان المدينة فسمع إنسانين يُعذّبان في قبرهما فقال : " إنهما ليُعذّبان وما يُعذّبان في كبير ، بلى ، أما أحدهما فكان لايستتر من بوله - وفي رواية لايستنزه من بوله - وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين ثمّ وضع على كلّ قبرٍ كسرة ، فقيل : يارسول الله لم فعلت ذلك ؟ قال : " لعلّه يُخفف عنهما مالم تيبسا "
عباد الله : إن من يرجع إلى كتب المحققين من العلماء والذين ينقلون بعض القصص عن أحوال بعض المعذبين في قبورهم بطرق موثوقة في الأغلب مثل ابن القيّم وابن رجب والسّفّاريني وأكثرها في العُصاة من المسلمين يجد عجبا ًوالله وقصص يجرح الفؤاد وتبيض منه العين ويزيد من الإعتبار وتقشعر منه فراء الرؤوس والجلود فاللهم أجرنا من عذاب القبور ياعزيز ياغفور .
ومن هذه القصص قصة أوردها الحافظ ابن رجب وغيره أن جماعة من التابعين خرجوا لزيارة أبي سنان فلمّا دخلوا عليه وجلسوا عنده قال : قوموا بنا نزور جاراً لنا مات أخوه ونُعزيه فيه قال محمد بن يوسف الفريابي : فقمنا معه ودخلنا ذلك الرجل فوجدناه كثير البُكاء والجزع على أخيه ، فجعلنا نُعزيه ونُسليه وهو لايقبل تعزية ولا تسلية ، فقلنا له : أما تعلم أن الموت سبيل لابُدّ منه ؟ قال : بلى ولكن أبكي على ماأصبح وأمسى فيه أخي من العذاب ، فقلنا له قد أطلعك الله على الغيب ؟ قال : لا ولكن لمّا دفنته وسوّيت عليه التُراب وانصرف الناس ، جلست عند قبره وإذا صوتٌ من قبره يقول : أوّاه أفردوني وحيداً أقاسي العذاب ، قد كُنت أصلّي قد كنت أصوم فأبكاني كلامُه وقلت : صوتُ أخي والله أعرفه ، فقلت لعلّه خُيّل إليك قال : ثمّ سكت ، فإذا أنا بصوته يقول : أوّاه لاأدري - في الثانية أو الثالثة - فنبشته حتى بلغت قريباً من اللِّبن فإذا أنا بطوق من نار في عُنقه فأدخلت يدي رجاء أن أقطع ذلك الطوق فاحترقت أصابعي فبادرتُ بإحراجها ، فإذا يده قد احترقت أصابعها ، قال فرددت عليه التراب وانصرفت فكيف لاأبكي على حاله وأحزن عليه ؟ فقلنا : فما كان أخوك يعمل في الدُنيا ؟ قال : كان لايؤدي الزكاة من ماله ، فقلنا هذا تصديق قوله تعالى : ( ولا تحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوقون مابخلوا به يوم القيامة ) وأخوك عُجّل له العذاب في قبره ثم خرجنا من عنده .
وذكر الحافظ ابن رجب أيضاً في كتابه ( أهوال القبور ) : أن ابن أبي الدُنيا أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان جالساً فأتاه قوم فقالوا : إنّا خرجنا حُجّاجاَ ومعنا صاحب لنا حتى أتينا ذات الصّفاح فمات فيها فهيأناه ثم انطلقنا فحفرنا له قبرا ولحدنا اللحد فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود - أي ثُعبان - قد ملأ اللحد ، فتركناه وحفرنا غيره فلمّا فرغنا من لحده إذا نحن ُبالأسود قد ملأ اللحد فتركناه وحفرنا مكاناً آخر فلمّا فرغنا من لحده إذا نحنُ بالأسود قد ملأ اللحد ، فتركناه وأتيناك ، قال ابن عباس : " ذلك عمله الذي يعمل به ، انطلقوا فادفنوه في بعضها ، فوالذي نفسي بيده لو حفرتم الأرض كلّها لوجدتموه فيه ، فانطلقنا فدفناه في بعضها ، فلمّا رجعنا قلنا لإمرأته : ماعملُه ويحك ؟ قالت : كان يبيع الطعام فيأخذ ُكل يومٍ منه قوت أهله ثمّ يقرض القصب مثله - أي يطحنه مثل ذلك الطعام - فيلقيه فيه - أي في ذلك الطعام الذي سيبيعه للناس ، أي كان باختصار : يغش بالطعام وهو حبّ البر ، فيقْرضُ ذلك القصب ويُلقيه في البُرّ لكي يُعوّض ماأخذ منه نعوذ بالله من الحيلة المحرمة والكسب الخبيث فذلك نمط من العذاب الذي ينال من يغشّ الناس في البيوع وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قال : " من غشّنا فليس منّا " وفي رواية : " من غشّ فليس منّى " أي ليس من أصحاب النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة وبئس مالٌ أتى من كسب حرام .
عباد الله : إن البهائم والدّواب وغيرها إلا الثقلين كل أولئك من غير الثقلين يسمع عذاب القبر ويُشهد لذلك حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من بني النجار على بغلة له ونحنُ معه إذ حادت به - أي البغلة - وكادت تُلقيَه وإذا أقبرٌ ستّة أو خمسة أو أربعة ، فقال : من يعرف أصحاب هذه الأقبُر ؟ فقال رجل ٌ أنا ، قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك ، فقال : " إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها ، فلولا إن لاتدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال : " تعوذوا بالله من النار " قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، قال : " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا : " نعوذ بالله من عذاب القبر " قال : " تعوذوا بالله من الفتن ماظهر منها وما بطن " قالوا : " نعوذ بالله من الفتن ماظهر منها وما بطن " قال : " تعوذوا بالله من المسيح الدجّال " قالوا : " نعوذ بالله من المسيح الدجال " فاللهم اجعلنا ممن خاف فسلم من عذاب الله وغنم وممن علِم فعمل وعلّم أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم . 

============ الخطبة الثانية ============ 
الحمدلله القوي المتين الذي أنجى برحمته وعذّب بحكمته أحمده الذي أسبغ علينا نعمته وأبان للخلائق فضله وعدله وصلى الله وسلم على النبي الذي بلّغ عن الله رسالته ونصح لله في بريتّه وعلى آله وصحبه مابقيت على ظهر الأرض ملّته وسلكت الخلائق طريقته وسلم تسليما ً كثيراً أما بعد : 
معشر المسلمين : اعلموا أن عذاب القبر يجري على الجسد والروح جميعاً وليس هو خاص بالروح فقط بل هو عامٌ في الجسد والروح وما ذكرنا من أحاديث وقصص تُبين هذا وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأجاب بقوله :
" بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السُنّة والجماعة ، تُنعّم النفس وتُعذّب منفردة عن البدن وتُعذب متصلة بالبدن والبدن متصلٌ بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمِعتين كما يكون للروح منفردة عن البدن " 
ثمّ قال : وهل يكون النعيم والعذاب للبدن بدون الروح ؟ 
هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة والكلام ، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنة والحديث . 
قول من يقول : إن النعيم والعذاب لايكون إلا على الروح وأن البدن لايُنعم ولا يُعذّب وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان وهؤلاء كفّار بإجماع المسلمين ، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون : لايكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور " انتهى كلامه 
ولمّا ذكر سماع البهائم لعذاب القبر قال :
" قال بعضهم : ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت - أي أصابها وجعٌ في بطنها بسبب أكل التراب مع البقل - إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية والنصيرية وسائر القرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام وغيرهما ، فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى والجهال تظنّ أنهم من ذرية فاطمة - أي بني عُبيد وغيرهم - وأنّهم من أولياء الله وإنما هو من هذا القبيل " ثم قال : " فقد قيل : إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة مايذهبُ بالمغل " انتهى أي كلامه . 
عباد الله : إن العمل الصالح والدعاء إذا اجتنب العبد المحرمات يُقرّب من الله تعالى ويحمي العبد من عذاب مابعد الموت عامّة من عذاب قبرٍ وغيره فلا يدع العبد الدُعاء في كل أحيانه في صلاته وفي غيرها حتى عند نومه فمما ورد في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا وضع يده اليمنى على خدّه عند النوم " اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك " ومما يدلّل على نفع الأعمال الصالحة وأنها تحمي البعد بإذن الله تعالى من أي عذاب في آخته يعتريه مارواه ابن حبان التميمي رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميّت إذا وُضع في قبره يسمعُ خفق نعالهم إذا ولّوا عنه مُدبرين فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام يمينه وكانت الصدقة عن شماله وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه فيأتيه الملكان من قِبلِ رأسه ، فتقول الصلاة : ماقِبلي مدخل ، ثمّ يُؤتى عن يمينه ويقول الصيام : ماقِبلي مدخل ، ثمّ يُؤتى عن يساره فتقول الزكاة ماقِبلي مدخل ، ثمّ يؤتى من قِبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الدقة والصلة والمعروف والإحسان : ماقِبلي مدخل ، فيقول له اجلس فيجلس قد مثُلت له الشمس وقد أصغت للغروب ، فيقول دعوني حتى أصلي ، فيقولون : إنك ستصلي ، أخبرنا عمّا نسألك عنه ، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماتقولون فيه ؟ وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول : محمد ، نشهدُ أنه رسول الله ، جاء بالحق من عند الله ، فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك تُبعث إن شاء الله  ، ثمّ يُفتح بابٌ إلى الجنّة فيُقال : هذا مقعدك وما أعدّ الله لك فيها ، فيزداد غيطة وسوروا ، ثمّ يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً ويُنوّر له فيه ، ويُعاد الجسد لما بُدئ منه ، وتُجعل روحه نَسمَ طيرٍ يعلق في شجر الجنّة " قال : فذلك قوله تعالى : ( يُثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدُنيا وفي الآخرة ويُضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء ) فاللهم لطفك وعونك لنا في سائر الأمور والثبات في الحياة وبعد الممات . . هذا وصلوا وسلموا . . 








الثلاثاء، 8 يناير 2019

خطبة عن قصة يوسف عليه السلام مع إخوته

الحمدلله ذي الفضل والعطاء والمجد والثناء الذي يبتلي عباده ليمنحهم أعظم الجزاء ويوفقهم للصبرعلى البلاء والرضا بالقضاء ، أحمده وهو أهل البرّ والوفاء وأصلي وأسلم على النبي الكريم المعطاء وعلى آله وصحبه الأصفياء الكرام النجباء ومن تبعهم بإحسان وعلينا معهم مادامت الأرض والسماء أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى منجاة والحياد عن دين الله مغواة ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ) ( ومن يُطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ) . 
عباد الله : إن في قصص الأنبياء لعبرة ، وفي ذكرهم عظة ، وفي آثارهم منهجٌ يضيء لك الدرب ويُبصرك بالطريق ويزيد النور في القلب ، ومن أحسن القصص الوارد في القرآن قصة يوسفَ عليه السلام مع إخوته ، يقول الحق ّ تبارك وتعالى فيها  : ( نحنُ نقُص عليك أحسن القصص بما أوحينـا إليك هذا القـرآن وإن كنت من قبلـه لمـن الغافلين ) وأصل قصته عليه السلام رؤيا رآها في منامه حيث رأى أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمرَ يسجدان له وهذه الرؤية بداية لبلاءٍ هذه خاتمته وذلك سجود إخوته وأبيه وخالته له وذلك لوفاة أمّه على الصحيح من القول ، وسجود المخلوق للمخلوق في شرعنا محرّم ٌ وشرك وكان في ذلك الوقت الذي عاشه يوسف وإخوته محرماً ، وهذا الإبتلاء ليس قاصراً على يوسف بل ممتدّ لأبيه يعقوب عليه السلام والذي ابيضت عيناه من الحزن على يوسف لما فقده تلك المدة الطويلة التي يُقال أنها بلغت حوالي ثمانين سنة في بعض الآثار التي أوردها الإمام الطبري في تفسيره عن الفُضيل بن عياض والحسن البصري رحم الله الجميع حيث قال ربنا عنه عليه السلام : " وتولّى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم " وكان يعقوب يُحب يوسف من بين إخوته فابتلاه الله فيما يُحب وكذلك سياسة وحكمة ربنا سُبحانه أن يبتلي الإنسان بما يُحب وبما يكره حتى يُرفع منزلته في العالمين .
عباد الله : وفي مجريات القصّة أن إخوةَ يوسف حاولوا بأبيهم أن يخرج معهم يوسف عليه السلام لكي يلعب - في زعمهم - فأخرجه معهم ومن ثمّ لما استفردوا به ألقوه في غيابة الجبّ والمقصود به : البئر الذي ألقي فيه ومن ثمّ رجعوا إلى أبيهم فأوهموه بأن الذئب أكله وجاؤا بقميصه وعليه دمٌ مكذوب وفي ذلك يحكي الله عنهم : ( وجاؤا على قميصه بدمٍ كذب قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ماتصفون ) ومن ثمّ استخرجه من البئر رجالٌ جاؤوا يشربون منه فتعلّق بالدلو ليخرج عليه السلام وجاؤا به إلى مصر ومن ثمّ باعوه بثمن زهيد - وانظر إلى حال هذه الدنيا الحقيرة كيف نبي من أنبياء الله يُستعبد ويُباع بثمن زهيد ٍ ودرهيمات معدودة ، ومن ثمّ كان من نصيب عزيز مصر الذي اشتراه وأوصى امرأته أن تُكرمه وترفع من شأنه ، ولكنّها مع طول بقاءه حاولت إيقاعه في الفاحشة ، فابتُلي وهو في بيت ملك مصر ، وقد أخبرنا الحقُ تبارك وتعالى بهروبه من امرأة عزيز مصر وأنهما استبقا الباب فقال سبحانه : ( واستبقا الباب وقدّت قميصه من دُبرٍ - أي شقته وقطعته من الخلف - وألفيا سيدها لدى الباب ) فكان ذلك وافق دخول العزيز والتي كذبت عليه المرأة لتخرج من الموقف بعذرٍ ، فقالت : ( ماجزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم ) فأنجى الله نبيه يوسف بنطق ذلك الطفل الذي في المهد حيث نطق وأخبر بأن القميص إن قُطع من الخلف فكذبت وهو من الصادقين وإن كان قُطع من الأمام فصدقت وهو من الكاذبين وكان القميص قُطع من الخلف لهروبه عليه السلام من المرأة وخشيته الوقوع في الحرام بسبب ذلك . 
عباد الله : انتشر خبر امرأة العزيز بمراودتها ليوسف عليه السلام في أوساط النساء في مصر فمنهن من اتهمها بالضلال ومنهن الساخرة منها فجمعتْهُن وقالت ليوسف اخرج عليهن فلمّا رأينه أعظمن شأنه وأكبرنه وجرحن أيديهن بالسكين التي آتتهُنّ امرأة العزيز ومنهن من خدشت وجهها وآذت نفسها وذلك كلّه لما رأينهُ من جمال وهيئة يوسف وحسن محيّاه وقد ورد في حديث مرسل رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُعطي يوسف وأمّه ثلث حسن أهل الدُنيا وأعُطي الناس الثلثين " وفي رواية فيها ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أُعطي يوسف وأمّه شطر الحسن ) أي نصفه وعلى كل حال ، فقد يُبتلى الرجال بالنساء وتُبتلى النساء بالرجال والمعصوم من عصمه الله تعالى وحفِظه فاللهم إنا نسألك العصمة والحفظ لنا وأهلينا وذرياتنا أجمعين . 
عباد الله : ومن ثمّ ابتلي يوسف بالسجن بتحريضٍ من امرأة العزيز وكذلك بعض النساء فتمّ سجنُه في سجن العزيز ، وقد وفقّه الله سبحانه وتعالى في معرفة تفسير الرؤى ، وكان معه في السجن فتيان فأخبر أحدهما بأنه رأى في منامه أنه يعتصر الخمر ويُخرجها شرابا  فأخبره وفسّر له رؤياه تلك بأنه سيسقي الملك خمراً وأنه يعود لعمله بعد فراقه ، وأخبره آخر بأن يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ، وقد فسّر له يوسف ذلك بأنّه يُصلب وأنّ الطير تأكل من رأسه ، وفسّر للملك تلك الرؤيا التي رآها وعجز الناس عن تفسيرها فوصل ليوسف الخبر عن طريق رسول الملك وكانت رؤيا الملك أنّه رأى في منامه سبع بقراتٍ سمان يأكلهن سبعٌ عِجاف أي ضعاف ورأى سبع سنابل خضر وسبع سنابل يابسات ففسرها يوسفُ للملك بأنه سيأتي سبع سنين خصبةٍ ويتلوها سبع سنين مجدبة وأوصاهم أن يتركوا الحبّ في السنابل حين الخِصب لكي لايُصبه السوس ولا التلف ولكي يستعينوا بذلك على حفظه لتلك السنين المُجدبة فكان ذلك كلّه ، فأُعجب الملك بتفسيره ووصيته وأمنته فأمر بإخراجه من السجن وأكرمه وقرّبه وقال : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) فكان من المقربين ذوي الحظوة لديه وجعله وزيره وملّكه قسْمَ ميرة مصر أي ( طعامها ) وكان يقسمها مقابل مالٍ يأخذه من الواردين عليه ومن ثمّ التقى بعد ذلك بإخوته بعد تلك السنين الطويلة فعرفهم ولم يعرفوه . 
عباد الله : دخل إخوة يوسف على يوسف عليه السلام فعرفهم ولم يعرفوه ولمّا قسم لهم من الزاد والمِيرة أراد منهم أن يأتوا بأخيه الشقيق الذي من أبيه وأمه واسمه :
" بنيامين " وأعلمهم أن لاميرة ولا طعام لهم إن لم يأتوا به ، وأمر للخدم عنده أن يضعوا المال الذي أُخذ من إخوته أن يضعوه في رحالهم لكي يطمعون في العودة مرة أخرى ولكي يُروا يوسفَ عليه السلام صدقهم ، فلمّا رجعوا ووصلوا إلى أبيهم أخبروه أن الكيل مُنع عنّا حتى نأتي ببنيامين للوزير وهو يوسف عليه السلام ولم يعلموا بوضع الثمن لهم في الرحال فلمّا فتحوا الرحال وجدوا الثمن فأطمعوا أبيهم بما لدى الوزير من كيل وبأن يرسل معهم أخاهم ، فأخذ عليهم المواثيق بردّه فلمّا دخلوا على يوسفً عليه السلام طمأن أخاه بينيامين بأنه يوسف ، وكاد لإخوته بأمر من الله له  بأن أمر بوضع صاع الملك في وعاء أخيه واتهمهم بسرقة الصاع وبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه لكي يبعد عنه الشك في تدبير هذه المكيدة لهم ، ومن ثمّ وجد الصاع في وعاء أخيه لكي يأخذه وفي ذلك يقول ربنا جل جلاله : ( كذلك كدنا ليوسفَ ماكان ليأخذ أخاه في دِين الملك نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علمٍ عليم ) وذلك أن السارق في دين الملك يضرب ويُغرّم وأما في تلك البلاد التي هم سكنوا فيها فإنه يُسترق ، فأراد يُوسف ان يُسترقّ ولا يضرب ويُغرّم مادام في قبضته ، ولما رأى ذلك إخوة يوسف اتهموا يوسف بالسرقة ولم يسلم من شرّهم في تلك الظروف فقالوا :
 ( إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل . . ) يقصدون يوسف ولأنه لم يأتي الفرج أسرّ يوسفَ هذا الإتهام ولم يُبدِ لإخوته الذين اتهموه شيئاً وكظم غيظه ، وسلك بعد ذلك  أخوة يوسف الطريق إلى أبيهم ليُخبروه بما جرى فازداد بذلك همّا ً على همّ ، وحزناً على حُزن وبلغ البلاء ذروته وابضت عيناه وقال لأبناءه : ( إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون ) وهو مع ذلك ماأيس وصبر وصابر ونفى عنه سوء الظن بربه وقال : ( يابنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) فاللهم إنا نعوذ بك من اليأس من روحك ونعوذ بك من الأمن من مكرك ومن زوال نعمتك وتحوّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرحيم . 

============= الخطبة الثانية =============
الحمدلله الذي العلي القدير قدّر المقدور ويسر العسير وإليه المآل والمصير وهو العلي الكبير والصلاة والسلام على نبيه الأمين البيشر والسراج المنير وعلى آله وصحبه أولي الفضائل والخير الوفير أما بعد : 
عباد الله : ولمّا دخل إخوة يوسف عليه بعد أن أرسلهم أبوهم أبانوا له شكواهم ورأى مابهم من الفاقة وشكوا حال والدهم وقالوا : ( ياايها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدقين ) فسألهم يوسفَ عليه السلام مستفهما ًوكذلك لكي يبيّن لهم ذنبهم ويعاتبهم فقال : ( هل علمتم بيوسفَ وأخيه إذ أنتم جاهلون ) قالوا بعد ذلك : ( أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا إنّه من يتق ويصبر فإن الله لايُضيع أجر المحسنين ) ومن ثمّ اعترفوا بفضله وعلوّ قدره ورفعة منزلته عليهم واعترفوا بجنايتهم وخطئهم فقالوا : ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين ) وانظروا لهذا النبي الكريم وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق ابن ابراهيم ماذا  ردّ عليهم ؟ وقد فعلوا به الأفاعيل وعزلوه عن أبيه تلك المدة الطويلة والحقبة الزمنية  ، ومع ذلك كلّه لم يؤنبهم تأنيباً جارحاً ويستضعفهم ويُذلهم ولم يكن أيضاً عوناً للشيطان عليهم وكيف ظهر ايمان الأنبياء بالقدر الذي لايُعادلهم فيه أحد قال لهم :
( لاتثريب عليكم - أي لاعتاب عليكم - اليوم يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين ) فما أكبر نفوس هؤلاء الأنبياء الكرام وصفوة الأنام ، وأمرهم لكي يُكفّروا عن بعض خطاياهم أن يذهبوا بقميصه - أي قميص يوسف - ويلقوه على وجه أبيهم لكي يُدخلوا السرور عليه بعد أن أدخلوا عليه الحزن في تلك المدّة ويردّوا بإذن الله بالقميص بصرهُ - وهذا إعجازٌ علمي له بابه ومقالُه فقد وجد بعضٌ من أطباء العيون أن العرق ينفع العين ويشفيها من العمى الذي سببه المياه البيضاء الموجودة في العين وكل ذلك بتيسير الله وتوفيقه .
عباد الله : واستكمالاً للفصل الأخير من سلسلة القصة فقد ذهب إخوة يوسف بالقميص وردّ الله بصر يعقوب بعد أن ابيّضت عيناه من الحزن وطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ذنوبهم ووعدهم فقال : ( سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ) ومن ثمّ ذهبوا ليوسف جميعا ًودخلوا عليه ورفع أبويه على عرش الملك وخرّوا له سُجداً وأتّم الله النعمة عليه وعلى أبيه عليه السلام وتحقّقت رؤيا يوسف عليه السلام بعد طول زمان ومفارقة الأوطان والصحب والإخوان وجمع الله شملهم جميعاً وقال يوسفُ في ذلك مديناً لربه بالشكر والعرفان قال : ( هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ًوقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيفٌ لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ) وهكذا انتهت قصة من أروع قصص الدنيا وفيها من الدروس والعبر للمتأملين والمتدبّرين والمتفكرين وأعظم درسٍ فيها لزوم الصبر في سائر الأمور مهما زلزلتك الوقائع والأحداث فوالله لن يظفر أحدٌ بالسؤدد والكرامة والعلو والرفعة في الدنيا ويوم القيامة إلا بالصبر الذي هو تاج صفات المتقين ورأس خصال المفلحين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " وما أعطي ابن آدم خيراً ولا عطاءاُ أفضل من الصبر " فاللهم اهدِ قلوبنا للصبر في سائر الأحوال وجنّبنا الزيغ والضلال وثبّتنا عند الموت والسؤال ياذا الإكرام والفضل والجلال . . هذا وصلوا وسلموا . .  


خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...