الثلاثاء، 8 يناير 2019

خطبة عن قصة يوسف عليه السلام مع إخوته

الحمدلله ذي الفضل والعطاء والمجد والثناء الذي يبتلي عباده ليمنحهم أعظم الجزاء ويوفقهم للصبرعلى البلاء والرضا بالقضاء ، أحمده وهو أهل البرّ والوفاء وأصلي وأسلم على النبي الكريم المعطاء وعلى آله وصحبه الأصفياء الكرام النجباء ومن تبعهم بإحسان وعلينا معهم مادامت الأرض والسماء أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى منجاة والحياد عن دين الله مغواة ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ) ( ومن يُطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ) . 
عباد الله : إن في قصص الأنبياء لعبرة ، وفي ذكرهم عظة ، وفي آثارهم منهجٌ يضيء لك الدرب ويُبصرك بالطريق ويزيد النور في القلب ، ومن أحسن القصص الوارد في القرآن قصة يوسفَ عليه السلام مع إخوته ، يقول الحق ّ تبارك وتعالى فيها  : ( نحنُ نقُص عليك أحسن القصص بما أوحينـا إليك هذا القـرآن وإن كنت من قبلـه لمـن الغافلين ) وأصل قصته عليه السلام رؤيا رآها في منامه حيث رأى أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمرَ يسجدان له وهذه الرؤية بداية لبلاءٍ هذه خاتمته وذلك سجود إخوته وأبيه وخالته له وذلك لوفاة أمّه على الصحيح من القول ، وسجود المخلوق للمخلوق في شرعنا محرّم ٌ وشرك وكان في ذلك الوقت الذي عاشه يوسف وإخوته محرماً ، وهذا الإبتلاء ليس قاصراً على يوسف بل ممتدّ لأبيه يعقوب عليه السلام والذي ابيضت عيناه من الحزن على يوسف لما فقده تلك المدة الطويلة التي يُقال أنها بلغت حوالي ثمانين سنة في بعض الآثار التي أوردها الإمام الطبري في تفسيره عن الفُضيل بن عياض والحسن البصري رحم الله الجميع حيث قال ربنا عنه عليه السلام : " وتولّى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم " وكان يعقوب يُحب يوسف من بين إخوته فابتلاه الله فيما يُحب وكذلك سياسة وحكمة ربنا سُبحانه أن يبتلي الإنسان بما يُحب وبما يكره حتى يُرفع منزلته في العالمين .
عباد الله : وفي مجريات القصّة أن إخوةَ يوسف حاولوا بأبيهم أن يخرج معهم يوسف عليه السلام لكي يلعب - في زعمهم - فأخرجه معهم ومن ثمّ لما استفردوا به ألقوه في غيابة الجبّ والمقصود به : البئر الذي ألقي فيه ومن ثمّ رجعوا إلى أبيهم فأوهموه بأن الذئب أكله وجاؤا بقميصه وعليه دمٌ مكذوب وفي ذلك يحكي الله عنهم : ( وجاؤا على قميصه بدمٍ كذب قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ماتصفون ) ومن ثمّ استخرجه من البئر رجالٌ جاؤوا يشربون منه فتعلّق بالدلو ليخرج عليه السلام وجاؤا به إلى مصر ومن ثمّ باعوه بثمن زهيد - وانظر إلى حال هذه الدنيا الحقيرة كيف نبي من أنبياء الله يُستعبد ويُباع بثمن زهيد ٍ ودرهيمات معدودة ، ومن ثمّ كان من نصيب عزيز مصر الذي اشتراه وأوصى امرأته أن تُكرمه وترفع من شأنه ، ولكنّها مع طول بقاءه حاولت إيقاعه في الفاحشة ، فابتُلي وهو في بيت ملك مصر ، وقد أخبرنا الحقُ تبارك وتعالى بهروبه من امرأة عزيز مصر وأنهما استبقا الباب فقال سبحانه : ( واستبقا الباب وقدّت قميصه من دُبرٍ - أي شقته وقطعته من الخلف - وألفيا سيدها لدى الباب ) فكان ذلك وافق دخول العزيز والتي كذبت عليه المرأة لتخرج من الموقف بعذرٍ ، فقالت : ( ماجزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم ) فأنجى الله نبيه يوسف بنطق ذلك الطفل الذي في المهد حيث نطق وأخبر بأن القميص إن قُطع من الخلف فكذبت وهو من الصادقين وإن كان قُطع من الأمام فصدقت وهو من الكاذبين وكان القميص قُطع من الخلف لهروبه عليه السلام من المرأة وخشيته الوقوع في الحرام بسبب ذلك . 
عباد الله : انتشر خبر امرأة العزيز بمراودتها ليوسف عليه السلام في أوساط النساء في مصر فمنهن من اتهمها بالضلال ومنهن الساخرة منها فجمعتْهُن وقالت ليوسف اخرج عليهن فلمّا رأينه أعظمن شأنه وأكبرنه وجرحن أيديهن بالسكين التي آتتهُنّ امرأة العزيز ومنهن من خدشت وجهها وآذت نفسها وذلك كلّه لما رأينهُ من جمال وهيئة يوسف وحسن محيّاه وقد ورد في حديث مرسل رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُعطي يوسف وأمّه ثلث حسن أهل الدُنيا وأعُطي الناس الثلثين " وفي رواية فيها ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أُعطي يوسف وأمّه شطر الحسن ) أي نصفه وعلى كل حال ، فقد يُبتلى الرجال بالنساء وتُبتلى النساء بالرجال والمعصوم من عصمه الله تعالى وحفِظه فاللهم إنا نسألك العصمة والحفظ لنا وأهلينا وذرياتنا أجمعين . 
عباد الله : ومن ثمّ ابتلي يوسف بالسجن بتحريضٍ من امرأة العزيز وكذلك بعض النساء فتمّ سجنُه في سجن العزيز ، وقد وفقّه الله سبحانه وتعالى في معرفة تفسير الرؤى ، وكان معه في السجن فتيان فأخبر أحدهما بأنه رأى في منامه أنه يعتصر الخمر ويُخرجها شرابا  فأخبره وفسّر له رؤياه تلك بأنه سيسقي الملك خمراً وأنه يعود لعمله بعد فراقه ، وأخبره آخر بأن يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ، وقد فسّر له يوسف ذلك بأنّه يُصلب وأنّ الطير تأكل من رأسه ، وفسّر للملك تلك الرؤيا التي رآها وعجز الناس عن تفسيرها فوصل ليوسف الخبر عن طريق رسول الملك وكانت رؤيا الملك أنّه رأى في منامه سبع بقراتٍ سمان يأكلهن سبعٌ عِجاف أي ضعاف ورأى سبع سنابل خضر وسبع سنابل يابسات ففسرها يوسفُ للملك بأنه سيأتي سبع سنين خصبةٍ ويتلوها سبع سنين مجدبة وأوصاهم أن يتركوا الحبّ في السنابل حين الخِصب لكي لايُصبه السوس ولا التلف ولكي يستعينوا بذلك على حفظه لتلك السنين المُجدبة فكان ذلك كلّه ، فأُعجب الملك بتفسيره ووصيته وأمنته فأمر بإخراجه من السجن وأكرمه وقرّبه وقال : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) فكان من المقربين ذوي الحظوة لديه وجعله وزيره وملّكه قسْمَ ميرة مصر أي ( طعامها ) وكان يقسمها مقابل مالٍ يأخذه من الواردين عليه ومن ثمّ التقى بعد ذلك بإخوته بعد تلك السنين الطويلة فعرفهم ولم يعرفوه . 
عباد الله : دخل إخوة يوسف على يوسف عليه السلام فعرفهم ولم يعرفوه ولمّا قسم لهم من الزاد والمِيرة أراد منهم أن يأتوا بأخيه الشقيق الذي من أبيه وأمه واسمه :
" بنيامين " وأعلمهم أن لاميرة ولا طعام لهم إن لم يأتوا به ، وأمر للخدم عنده أن يضعوا المال الذي أُخذ من إخوته أن يضعوه في رحالهم لكي يطمعون في العودة مرة أخرى ولكي يُروا يوسفَ عليه السلام صدقهم ، فلمّا رجعوا ووصلوا إلى أبيهم أخبروه أن الكيل مُنع عنّا حتى نأتي ببنيامين للوزير وهو يوسف عليه السلام ولم يعلموا بوضع الثمن لهم في الرحال فلمّا فتحوا الرحال وجدوا الثمن فأطمعوا أبيهم بما لدى الوزير من كيل وبأن يرسل معهم أخاهم ، فأخذ عليهم المواثيق بردّه فلمّا دخلوا على يوسفً عليه السلام طمأن أخاه بينيامين بأنه يوسف ، وكاد لإخوته بأمر من الله له  بأن أمر بوضع صاع الملك في وعاء أخيه واتهمهم بسرقة الصاع وبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه لكي يبعد عنه الشك في تدبير هذه المكيدة لهم ، ومن ثمّ وجد الصاع في وعاء أخيه لكي يأخذه وفي ذلك يقول ربنا جل جلاله : ( كذلك كدنا ليوسفَ ماكان ليأخذ أخاه في دِين الملك نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علمٍ عليم ) وذلك أن السارق في دين الملك يضرب ويُغرّم وأما في تلك البلاد التي هم سكنوا فيها فإنه يُسترق ، فأراد يُوسف ان يُسترقّ ولا يضرب ويُغرّم مادام في قبضته ، ولما رأى ذلك إخوة يوسف اتهموا يوسف بالسرقة ولم يسلم من شرّهم في تلك الظروف فقالوا :
 ( إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل . . ) يقصدون يوسف ولأنه لم يأتي الفرج أسرّ يوسفَ هذا الإتهام ولم يُبدِ لإخوته الذين اتهموه شيئاً وكظم غيظه ، وسلك بعد ذلك  أخوة يوسف الطريق إلى أبيهم ليُخبروه بما جرى فازداد بذلك همّا ً على همّ ، وحزناً على حُزن وبلغ البلاء ذروته وابضت عيناه وقال لأبناءه : ( إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون ) وهو مع ذلك ماأيس وصبر وصابر ونفى عنه سوء الظن بربه وقال : ( يابنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) فاللهم إنا نعوذ بك من اليأس من روحك ونعوذ بك من الأمن من مكرك ومن زوال نعمتك وتحوّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرحيم . 

============= الخطبة الثانية =============
الحمدلله الذي العلي القدير قدّر المقدور ويسر العسير وإليه المآل والمصير وهو العلي الكبير والصلاة والسلام على نبيه الأمين البيشر والسراج المنير وعلى آله وصحبه أولي الفضائل والخير الوفير أما بعد : 
عباد الله : ولمّا دخل إخوة يوسف عليه بعد أن أرسلهم أبوهم أبانوا له شكواهم ورأى مابهم من الفاقة وشكوا حال والدهم وقالوا : ( ياايها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدقين ) فسألهم يوسفَ عليه السلام مستفهما ًوكذلك لكي يبيّن لهم ذنبهم ويعاتبهم فقال : ( هل علمتم بيوسفَ وأخيه إذ أنتم جاهلون ) قالوا بعد ذلك : ( أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا إنّه من يتق ويصبر فإن الله لايُضيع أجر المحسنين ) ومن ثمّ اعترفوا بفضله وعلوّ قدره ورفعة منزلته عليهم واعترفوا بجنايتهم وخطئهم فقالوا : ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين ) وانظروا لهذا النبي الكريم وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق ابن ابراهيم ماذا  ردّ عليهم ؟ وقد فعلوا به الأفاعيل وعزلوه عن أبيه تلك المدة الطويلة والحقبة الزمنية  ، ومع ذلك كلّه لم يؤنبهم تأنيباً جارحاً ويستضعفهم ويُذلهم ولم يكن أيضاً عوناً للشيطان عليهم وكيف ظهر ايمان الأنبياء بالقدر الذي لايُعادلهم فيه أحد قال لهم :
( لاتثريب عليكم - أي لاعتاب عليكم - اليوم يغفرُ الله لكم وهو أرحم الراحمين ) فما أكبر نفوس هؤلاء الأنبياء الكرام وصفوة الأنام ، وأمرهم لكي يُكفّروا عن بعض خطاياهم أن يذهبوا بقميصه - أي قميص يوسف - ويلقوه على وجه أبيهم لكي يُدخلوا السرور عليه بعد أن أدخلوا عليه الحزن في تلك المدّة ويردّوا بإذن الله بالقميص بصرهُ - وهذا إعجازٌ علمي له بابه ومقالُه فقد وجد بعضٌ من أطباء العيون أن العرق ينفع العين ويشفيها من العمى الذي سببه المياه البيضاء الموجودة في العين وكل ذلك بتيسير الله وتوفيقه .
عباد الله : واستكمالاً للفصل الأخير من سلسلة القصة فقد ذهب إخوة يوسف بالقميص وردّ الله بصر يعقوب بعد أن ابيّضت عيناه من الحزن وطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ذنوبهم ووعدهم فقال : ( سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ) ومن ثمّ ذهبوا ليوسف جميعا ًودخلوا عليه ورفع أبويه على عرش الملك وخرّوا له سُجداً وأتّم الله النعمة عليه وعلى أبيه عليه السلام وتحقّقت رؤيا يوسف عليه السلام بعد طول زمان ومفارقة الأوطان والصحب والإخوان وجمع الله شملهم جميعاً وقال يوسفُ في ذلك مديناً لربه بالشكر والعرفان قال : ( هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ًوقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيفٌ لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ) وهكذا انتهت قصة من أروع قصص الدنيا وفيها من الدروس والعبر للمتأملين والمتدبّرين والمتفكرين وأعظم درسٍ فيها لزوم الصبر في سائر الأمور مهما زلزلتك الوقائع والأحداث فوالله لن يظفر أحدٌ بالسؤدد والكرامة والعلو والرفعة في الدنيا ويوم القيامة إلا بالصبر الذي هو تاج صفات المتقين ورأس خصال المفلحين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " وما أعطي ابن آدم خيراً ولا عطاءاُ أفضل من الصبر " فاللهم اهدِ قلوبنا للصبر في سائر الأحوال وجنّبنا الزيغ والضلال وثبّتنا عند الموت والسؤال ياذا الإكرام والفضل والجلال . . هذا وصلوا وسلموا . .  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...