الحمدلله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وأنزل الكتاب بالحق والميزان والصلاة والسلام على المبعوث بالفرقان نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والعرفان أزكى الصلوات من الله الكريم المنان وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين بإحسان أما بعد :
فاتقوا الله عباد الرحمن وسيروا لربكم بيقين وإيمان واحذروا سبل الشيطان تبلغوا الجنة دار الأمان وتنجوا من الوعيد والخسران ، عباد الله :
فضل الله عز وجل آدم وبنيه وكرمهم باللسان والبيان وبالخلق الحسن الذي لاعلة فيه ولا نقصان وعلّم الله آدم الأسماء كلها ، فعلمه كل شيء من المسميات وفتق اللغة على لسانه وخلقه ناطقاً مبينا ، يبين مافي نفسه ومشاعره وفاضل سبحانه بين اللغات على مر العصور وحفظ بعضها وذهب كثير منها أدراج الرياح ، وذلك حيث أن كثيراً منها لاوحي يحفظها ولا أمةً تكتبها وتبلغها ولا علماء ألفوا فيها فذهبت كسائر اللغات التي اندثرت وتلاشت مع تطور اللسان الإنساني عبر العصور .
عباد الله إن عنوان وبريد كل أمة من الأمم لغتها التي تتحدث بها وهي همزة وصل والرابطة بينها وبين الشعوب الأخرى ، وعز كل أمة وفلاحها بنجاح لغتها ومسايرتها لكل شؤون الحياة لاجمودُها وانتكاستُها ، وذلك كله بانتكاس أهلها وتضيعهم للغتهم ، والله جعل اللغة العربية لغة الكتاب والوحي المنّزل فقال سبحانه : ( إنا أنزلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون ) وجعل هذه اللغة حاكمة للناس بالشرع المحكم إلى أن تقوم الساعة وذلك كله برفع القرآن لها ونزوله بها (وكذلك أنزلناه حُكماً عربياً ولئن اتبعت أهوائهم بعد ماجاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق ) وهذا برهان رفعة وسبيل عزة لهذه الأمة التي أعرضت عن لغتها أو استهانت بها وبما تحويه فيها من مكنونات وذخائر لاتنقضي ولا تخْلِق على مرّ السنين والأعوام .
عباد الله : إن كثيراً من أبناء جلدتنا قد غُيّبوا عن الإعتزاز بلغتهم وتمّ إشغالهم بلغات أخرى فلاهم أتقنوا لغتهم ولا لغة عدوهم فصاروا مثل سقط المتاع بين الأمم لايُباع ولا يبتاع أو مثل الأرض المهجورة لاهي بكرٌ ولا معمورة ، إن هجر الكثير منّا في التعرف على اللغة العربية وعلى الإعتزاز بها وافتخارهم في المقابل بلغة غيرهم وتمجيدهم لثقافة الأعداء هو من أعظم الذل والمهانة التي ابتليت به أمتنا ، ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يتحدث بالفارسية وهو ممن آمن فقال : " أرضيتم بالمجوسية بعد الإسلام " أو كما قال ، وكان يقول : " تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد المروءة " وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على حفظ أبناءهم من اللحن والمقصود به : " الخطأ في الحديث بتغيير قواعد اللغة " كأن ينصب المضموم أو يضم المفتوح أو نحوَ ذلك ، وكتب كاتبٌ لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه خطاباً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فبدأه بقوله : " من أبو موسى الأشعري . . . " فغضب عمر رضي الله عنه وكتب إلى أبي موسى : " أن اضربه سوطاً واستبدله بغيره " وذلك لأنه رفع المجرور ، وكان من المفترض أن يقول : " من أبي موسى الأشعري " وكان بعضهم ربما يخاف اللحن في الدعاء ويخشى أن لايُستجاب له ، وكان الحسن البصري يقول : " ربما دعوت فلحنت فأخاف أن لايُستجاب لي " .
عباد الله : كان الرعيل الأول يعدون اللحن مذمة وكان بعضهم يراه إثماً وذنبا وكان أيوب السختياني إذا لحن استغفر ، فكانوا للغة القرآن الجيل الأبرّ ، وكان لهم في تعليمها وتنشئة أبنائهم عليها والتأليف بقواعدها وأدبها وبلاغتها وأسسها وأساليبها عظيم الأثر .
عباد الله : إن أعداء الإسلام يشنون على لغتنا ولغة الوحي العزيز حروباً في الخفاء وظاهرة للمتتبعين ويكيدون لها وللأمة كيد قبيحاً دانياً ومكراً سافلاً جانياً يريدون صرف أفراد الأمة عن فهم لغتهم وسبر أغوارها لكي يعزلوهم عن فهم الوحيين القرآنِ والسنة فهم يحيون اللهجات العامية أو يعملون على نشر اللغات الغربية أو غيرها فمنتهى الإرادة عندهم هدم الدين لاهدم اللغة ولكن يعلمون أنه بهدم اللغة لن يفهم قول الله تعالى ولا قول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فهل نصحو من غفلتنا ونحث أنفسنا وأبنائنا على تحسين مستواهُم في لغة القرآن وتطوير قدراتهم للأفضل بها فيه مسؤولية على عاتق الجميع . . فاللهم أعنّا على فعل الخيرات وبارك في جهودنا جميعاً يارب الأرض والسماوات أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
========= الخطبة الثانية =========
الحمدلله الذي يهدي من يشاء ويختار ، أحمده وهو الواحد القهار ، وأصلي على النبي المختار وعلى آله وصحبه البررة الأخيار وعلى من تبعهم بإحسان ٍ ماتعاقب الليل والنهار أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله : وكونوا من أنصار دينه ولغة كتابه الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولو شاهدتم كيف تنتصر الأمم الأخرى للغتهم وحماسِهم لها ، وفخرهم واعتزازهم بها مع أنها متهالكة ، وبعضها لايُميز فيها الذكر من الأنثى ولا الجمع من المفرد ولا المثنى ، ولا المخاطب من الغائب على قلة في المفردات وشح في المترادفات حتى مايكادُ أن يجدَ المتحدث بتلك اللغة بعض الألفاظ التي تعبر في نفسه لقلة كلماتها وفقر هيكلتها ومضمونها وضيق نطاقها . . كل ذلك موجودٌ في تلك اللغة وأهلها يذودون عنها أعظم الذود وأشرس المدافعة ويستميتون في نشرها والفخر بها ، ونحن بين ايدينا لغة هي أعظم اللغات وأوسعها شمولية ونطاقاً ومرادفات واشتقاقات تتولد بين الحين والآخر إلى يومنا هذا لاتكاد ، لغة موسوعية متجددة على مرّ العصور والأعوام مترابط عتيقها وجديدها وكل ذلك بشهادة الأعداء قبل أهلها ، وتجد مع ذلك التقصير والزهد في تعلم الجديد منها واستدراك القديم فما أتانا هذا الخور والضعف ولا الإستكانة وطغيان الأعداء وغلبتهم على أمرنا إلا بسبب قلة الدين ونقص الحمية والغيرة الدينية على تراثنا . .
فمتى يُفيق الشبل في الإسلام * ومتى يعي الكُهال ذو الأحلام
كاد العدو يحلُ في أبيــــاتنا * والنــاس في خورٍ على الآثام
بالله ربي قدعقدت رجائيا * ثم الشباب على خطى الإقدام
لغتي وديني عزتي وكرامتي * بهمــا أقرّع فاجراً متعامي