إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله أرسله ربه بين يدي الساعة إلى الأنام فأبان لهم المحجة بجوامع الكلام فلا يزيغ عنها إلا هالك حيران في أطباق الظلام عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه وأتباعه وحزبه إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - على نعمة إدراك الشهر الفضيل واستكملوا مابقي منه بالسعي والتحصيل فالموفقون للفضائل والأعمال نزرٌ قليل ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ) واعلموا رحمكم الله أنه بضعة أيام يُغلق باب المضاعفة للأجور فرمضان أوشك على الرحيل فاغتنموا مابقي منه ولو علم الناس مافي رمضان من الخيرات والبركات لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان لما فيه من تنزّل الرحمات واستجابة الدعوات وتكفير الذنوب والسيئات وتزيين الجنات حيث رُوي أن الله : " يوشك عبادي الصالحون أن توضع عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك " .
وفيه العتق من النيران وذلك كلّ ليلة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كُتبت فيه المعتَقين الفائزين أم كنت فيه من الخائبين الخاسرين كيف ذلك وقد قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : " رغم أن امرئ أدرك رمضان فلم يُغفر له " قل آمين - أي يامحمد - فقلت : " آمين " وذلك من حديث جابر بن سمُرة وهو حديث حسن البزار والطبراني . . فأي ذلّ وخسارة يعتري ذلك الرجل الذي يُدرك رمضان ولم يُغفر له .
وما تضيع هذه المواسم من رمضان وغيره إلا على رجل ابتلي إما بالتسويف أو بطول الأمل وكلاهما باب من أبواب الردى والضياع وإن طول الأمل ياعباد الله يُضيع العبد ويُورده مواطن الهلاك فمن طال أمله خاب سعيُه وعمله ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه : " لايطولنّ عليكم الأمد ولا يُلهينّكم الأمل فإن كل ماهو آتٍ قريب ، ألا وإن البعيد ماليس آتيا " وطول الأمل من الشقاء ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : " إن من الشقاء طول الأمل ، وإن من النعيم قِصر الأمل " .
عباد الله : روى الطبراني وابن أبي الدنيا بسند حسن عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ، ويَهْلِك آخرها بالبخل والأمل " وفي رواية : " صلاح هذه الأمة باليقين والزهد ويَهْلِك آخرها بالبخل والأمل " وهذا يدلل على شدة الضرر على دين العبد بسبب طول الأمل ، ومن أسباب فسق اليهود والنصارى وتحريفهم للتوراة والإنجيل وأكلهم بها ثمناً قليلاً وفسقهم وفجورهم طول الأمد ، وفي ذلك يقول الله جلّ وعلا : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البخاري رحمه الله أنه رضي الله عنه قال : " خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطّاً مُربعاً وخط خطاً في الوسط خارجاً منه - اي من ذلك المربع - وخط خُططاً صغاراً - أي خطوطاً صغاراً - إلى هذا الذي في الوسط ، من جانبه الذي في الوسط ، فقال : هذا الإنسان ، وهذا أجلُه محيطٌ به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا " .
عباد الله : من أسباب طول الأمل : حب الدنيا والجهل وأما الجهل فدواؤه العلم والبصيرة ومعرفة الحق ومن العلم أن تعلم أنك في هذه الدنيا ضيفٌ يوشك أن يرتحل وأما حب الدنيا فدواؤه معرفة حال الدنيا وأنها دار غرور مطبوعة على الكدر وما صفت لخير البشر
طُبعت على كدر وأنت تريدها * صفواً من الأقذار والأكدار
والعجب أن الدنيا وطول الأمل لم يسلم منها الكبير فكيف بحال الشاب والصغير وعند البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لايزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين : في حب الدنيا وطول الأمل " .
فالعبد يوطّن نفسه على قِصر الأمل وكره الدنيا من صغره ويدعوا الله بصدق وإخلاص أن لاتكون الدنيا أكبر همّه ولا مبلغ علمه ويتذكر حال فراقه لهذه الدنيا فهو أحرى أن يجتهد في عباداته وأحواله كلّها فيخرج من هذه الدنيا وقد سلم ونجا وعوفي بإذن ربه وخلّف دار المنغصات وراءه وقدم لدار النعيم والفرح الدائم المقيم .
اللهم سلّمنا من موجبات سخطك وعذابك ومما يقرّب لهما من قول أو عمل ونسألك موجبات رحمتك وما يقرّب لها من قول أو عمل ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي قريبٌ مُجيب .
============ الخطبة الثانية ============
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات يوفق لفعل الطاعات ويغفر الذنوب والزلات والصلاة والسلام على المبعوث بالبينات نبينا محمد وعلى آله وصحبه وعنا معهم إلى يوم الدين وسلم تسليما مزيدا أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه في ختام هذا الشهر يُجب على العبد أن يخرج زكاة الفطر قبل صلاة العيد عن نفسه ومن يعول من أفراد أسرته صغيراً كان أوكبيرا ً وقد شرع الله هذه الزكاة طهرة للصائم مما يشوب صوبه من اللغو والرفث والزلل وطعمة للفقراء والمساكين والمحتاجين في البلد الذي هو فيه ، وسمّيت زكاةً لأنها واجبة لاتسقط عن العبد بأي حال إلا إذا كان من الفقراء الذين لايجدون ماينفقون حينها أي قبل صلاة العيد ، وإذا تسنّى له أن يجد بعد الصلاة فلا يخرج شيئا لفوات الوقت وأما الحمل في البطن فيستحب أن يُخرج عنه ولا يجب .
ويخرج الناس من قوت البلد ويُخرج عن كل فردٍ صاعاً من تمر أو أقط أو زبيب أو برّ أو شعير أو أرز أو ذره أو نحوها مما يقتات الناس والأفضل من ذلك مايشتهر بين الناس لقوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم " ومما ورد في ذلك كله حديث ابن عمر رضي الله في الصحيحين قال : " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا ًمن تمر أو صاعا ًمن شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب على الحر والعبد والذكر والأثنى والصغير والكبير من المسلمين " وأما إن أخرجا بعد صلاة العيد فليست زكاة وإنما هي صدقة من الصدقات شأنها في ذلك شأن الأضحية .
فلنحرص في ذلك على أدائها في الوقت قبل صلاة العيد وهو وقت الفضيلة أو قبل صلاة العيد بيوم أو يومين وهو جائز لكي يتم بذلك المقصود وهي الطهارة من كل ذنب والتزكي من الخطايا والأوزار واعلموا أنه لاتجوز في إخراجها القيمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها من قوت وطعام أهل البلد فالنص صريح في الطعام لا القيمة وهذا هو الذي يُفتي به جمهور العلماء في عصرنا الحاضر وعلى رأسهم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ، واحرصوا - وفقكم الله - على التكبير بعد رؤية هلال شوال فهو من أفضل الأعمال المنصوص عليها في الوحيين ( ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون) ، فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ووفقنا لكل عمل صالح يرضيك عنّا واختم بالصالحات أعمالنا وحقق إيماننا وآمالنا ياذا الجلال والإكرام . .