الحمدلله الذي خلق النفس البشريةَ وهداها لما فيه تقواها وأودع فيها من الطبائع مافيه قوام عيشها ومن كل خير أولاها والصلاة والسلام على المبعوث بالخيرات أتقى الخليقة وأزكاها بعثه ربُّه ليتمم مكارم الأخلاق فبينها وللعالمين أسداها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير أصحاب الرسل وأوفاها وعلى من تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن لكل شعوب الأرض ثقافة وتقاليد وعادات بعضها يخالف العقل السليم والفطرة والدين وبعضها يوافق ذلك وهذه الثقافة والعادات والتقاليد متباينة في الجمال والقبح والفظاظة واللطف والقوة والضعف والمحبة والكراهية فمنها ماهو جميلٌ مقبول وقبيحٌ مردود ، ومنها مافيه فظاظة وغلظة ومنها مافيه لطفٌ ولين ومنها ماهو قوي ومنها ماهو ضعيف ومنها ماهو محبوب ومنها ماهو مكروه ودين الله يقرّ كثيراً من العادات والتقاليد وخصوصاً تلك العادات التي أجمع على حبها الشعوب كالكرم والشجاعة والمعاملة بالأخلاق الحميدة ، والميزان في ذلك شرع الله جلّ وعلا ، فما أحبه الله وأذن فيه كان خيرَ عادة وخيرَ موروث يورثه الأجداد للآباء والآباء للأولاد والأولاد للأحفاد وما كان يرفضه الشرع المطهر ولم يأذن به الله فهو شرُّ عادة وشر موروث وبئس مايُورّث للذرية والأحفاد ، وكلّما كانت الشعوب قريبة من شرع الله ونهجه كلما كانت عاداتها وتقاليدها وموروثاتها أسلم وأقبل للعقل والفِطَر السليمة ، ولذا رد الله تعويل كل كافر أو مشرك على الآباء ونقض ذلك كلّه وأن ذلك مما يستقبحه العقل ويستهجنه قال تعالى : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لايأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالاتعلمون ) وهذا ليس في شأن الشرك على عظيم خطره ولكنه في شأن كل فعل وقول وعادة قبيحة شنيعة متوارثة من الأجداد والآباء يتمسك بها الجُهال والضلال وهم يعلمون في قرارة أنفسهم وفي عقلهم الباطن قبحَها وشناعَتها ولكنّ دوافعَ الشر في النفس وتزيين الشيطان والهوى أضل الكثير من هؤلاء ( أفمن زيّن له سوء عمله فرءاه حسناً فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليمٌ بما يصنعون ) كما زُين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم ( وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شُركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء ربك مافعلوه فذرهم وما يفترون ) وكفعل المشركين بالإبل فجعلوا منها البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام حتى أصبحت عندهم عادة فالبَحيرة : هي الناقة تقطع أذُنُها إذا أتت بعدة بطون والسائبة هي التي تُسيّب وتترك للأصنام والأوثان ولا يُحمل عليها والوصيلة هي الناقة التي تصل حملها بأنثى بعد أنثى فتترك إذا وصلت حملها للأوثان والأصنام وأما الحام فهو فحل الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من الأبل تركوه للصنام ولم يحملوا عليه فجاء الإسلام ونقض ذلك كلّه .
عباد الله : من العادات التي كانت عند أهل الجاهلية أنه إذا توفي زوج المرأة أحدّت عليه المرأة حولا كاملاً ولم تغتسل ولم تتنظف ولا تتطيب ولا تخرج حتى يمر عليها الحول ثم يؤتى لها بدابة تفتض بها - أي تتمسح بها - فلم تفتض بشيء إلا مات ثم ترمي ببعرة على رأس الحول كناية على قلة ماقدمت في حق زوجها ، فجاء الإسلام فحرّم هذه العادة وأبطلها وطرح من مدة الحداد في الجاهلية ثلثيها وأوجب عليها الحداد أربعة أشهر وعشرة أيام ولم يحرّم عليها التنظف والإغتسال وأجاز لها الخروج لحاجة ضرورية فقط وهذا من فضل الله .
وكذلك كانت في الجاهلية عادة جائرة وهي حرمان المرأة من الميراث فجاء الإسلام فأوجب لها الإرث قد يصل إلى ثلثي المال في بعض الحالات وكل ذلك من عدل هذا الدين وإنصاف الشريعة ، وكانت المرأة في الجاهلية عند كثير من قبائل العرب إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها وكذلك يصنع اليهود ، وبعض العرب يخرجها من البيت فجاء الإسلام فأبطل هذه العادة والتي فيها امتهان للمرأة وأباح المؤاكلة والمشاربة لها وحرّم إخراجها من البيت بغير حق بل وأباح مجامعتها بما دون الفرج وحرّم جماعها في الفرج وهذا من عدالة ورحمة الشرع الحنيف المطهر .
ومن أشنع العادات التي كانت في الجاهلية وأد البنات فقد كانوا يأدونها وهي حيّة خوف العار وما يُشبه هذا في الشعوب الأخرى التي تُقدم الفتاة الصغيرة قرباناً لأصنامهم وأوثانهم فجاء الإسلام وحرّم ذلك وأعظمه ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا مارزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .
ومن عاداتهم الشنيعة زواج الرجل بامرأة أبيه إذا توفي عنها أبوه فجاء الإسلام فحرّم ذلك حيث يقول الحق تبارك وتعالى : ( ولا تنكحوا مانكح أباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا ) وكذلك كانوا يجمعون بين الأختين فجاء الإسلام وحرّم ذلك وذكر ذلك في آية المحرمات من النساء في سورة النساء ، وقد ساق ابن جرير بسنده إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن أنه قال : " كان أهل الجاهلية يحرمون ماحرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين " .
وكان من عاداتهم حينما يتبنّى الرجل منهم طفلاً صغيراً من باب الإحسان أن ينسبه له ولا ينسبه لأبيه الذي أنجبه من صلبه ، فيُنسى أبوه الأصلي ويُنسب ذلك الطفل لمن تبنّاه وجاء الإسلام فأبطل هذه العادة وأنزل الله في ذلك قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسطُ عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . . ) الآية
بارك الله لي ولكم في الآيات والآثار وقربني وإياكم إليه ربنا الجواد الغفار ورزقنا الإستكثار من العمل الصالح ليوم القرار أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============= الخطبة الثانية ===============
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن لهداه اقتفى أما بعد :
عباد الله : إن من عادات أهل الجاهلية الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والفرق بين الفخر بالحسب والطعن في النسب أن الفخر بالحسب هو افتخار الإنسان بالمناقب من باب التعالي على الناس والكبر والخيلاء وتفضيلاً للنفس على الغير ، وأما الطعن بالنسب فهو انتقاص الناس بعرقهم أو قبيلتهم أو نفي نسبهم إلى آبائهم أو تعييرهم ببشرتهم أو مكانتهم الإجتماعية وغير ذلك ، ومنها الإستسقاء بالنجوم وهو نسبة المطر لها وهو شرك وظلم وكذلك النياحة على الميت وهذا في الغالب يكون بين النساء والنياحة هي رفع الصوت بالبكاء والصراخ على الميت وقد ذكر النبيُ صلى الله عليه وسلم أن أمته لايتركونهن ، ففي حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لايتركونهن : الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والإستسقاء بالنجوم والنياحة " أخرجه مسلم وقد جاء الإسلام بإبطال هذه العادات السيئة ففي حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لينتهين أقوامٌ يفتخرون برجال - وفي رواية بآبائهم الذين ماتوا - إنما هم فحمُ جهنّم أو ليكوننَّ أهون على الله من الجُعلان التي تدفع النتن بأنفها " وقال أيضاً : " الكبر بطرُ الحق وغمطُ الناس " أي : احتقارهم وقال الله تعالى في الحديث القدسي : " أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب ، وأما من قال : مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب " .
وقال صلى الله عليه وسلم في النياحة : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرعٌ من جرب " وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوم البيعة " ألا ينُحن " والسربال هو لباس يشبه الثوب والدرع : فهو قميصٌ تلبسه المرأة .
عباد الله : مايقع الناس في هذه العادات الممقوتة وما يُماثلُها أو يشابهُهَا إلا من جهل ماكان عليه أهل الجاهلية أو بسبب التقليد الأعمى أو قلة الديانة أو اتباع الهوى والإستهانة بمثل هذه الكبائر ، ولذا في الاثر عن عمر بن الخطاب رض الله عنه أنه قال : " لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لايعرف الجاهلية " ولذا وجب معرفة الشر لتوقيه الخير لفعله والمسابقة فيه . . ثم صلوا على من نبي الهدى والرحمة فقد قال عز من قائل حكيما : ( إن الله وملائكته يُصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما )