الحمدلله الذي برأ الخلائق ورزقهم وكان بهم خبيرا بصيرا ، أحمده وهو الذي خلق كل شيئ فقدره تقديرا ، وأستغفره وكان على عباده حليماً قديراً ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فبلغ ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أقام الله به الملة العوجاء والحنيفية السمحاء وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً وألان به ماكان عسيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعنا معهم ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيرا . . . أما بعد :
فياعباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه وارجوه وادعوه واستأنسوا بنجواه ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ) واعلموا أنكم قادمون عليه ومقبلون إليه لامحالة فأحسنوا في العمل وأجتنبوا الزلل في كل حال وادعوه يجنبكم الزيغ والضلال .
عباد الله : إن مما زلت به القَدم في زماننا وفي الحديث والقِدم عند طائفة من الناس وكان ذلك في بابٍ عظيمٍ من أبواب الإيمان وأصلٍ من أصول الشريعة الغراء وأسٍ من الأسس والثوابت التي من تمسك بها نجى واستبشر ومن أعرض عنها وكفر بها فقد هلك وخسر ، وذلك الباب هو باب " القدر" بخيره وشره وحلوه ومره .
وقد أرشد الله عباده في كتابه وسنة نبيه بوجوب الإيمان به ايماناً جازماً ويقيناً صادقاً وحذر من الكفر به ، و لا يُطلق على شاك بهِ و جاحدٍ له أنه مؤمن ومن جملة هذه الآيات قوله تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر " وقال جل جلاله : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " وقال سبحانه : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقال سبحانه " ماأصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختالٍ فخور " ، ومن سنّة المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإيمان كما أخرجه مسلم في صحيحه قال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " .
وكما ورد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : " يابُني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ماخلق الله القلم ، فقال له اكتب : فقال : ربِّ وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " ثم قال لابنه : يابُني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من مات على غير هذا فليس مني " وفي رواية لأحمد : " إن أول ماخلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " وفي رواية لابن وهب " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار " .
ومن ذلك أيضاً ماجاء في سنن أبي داوود من حديث ابن الديلمي التابعي رضي الله عنه قال : أتيت أُبي بن كعب - الصحابي الجليل - فقلت له : وقع في نفسي شيءٌ من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يُذهبَه من قلبي ، فقال له : " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذّّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحدٍ ذهباً في سبيل الله ماقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو متّ على غير هذا لدخلت النار " قال ابن الديلمي : " ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك ، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك " .
عباد الله : بل إننا نقول تباعاً لذلك أن الله ورسوله قد وصف الذين ينفون القدر ويقولون : ( لاقدر ) ويُسموّن " القدرية " وصفهم بأنهم مجوس هذه الأمة وأن لايُزاروا إذا مُرضوا ولا تُشهد جنائزهم إذا ماتوا ، نعوذ بالله من الخسران فقد روى أبوداوود في سننه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القدرية مجوس هذه الأمة ، إذا مرضوا فلا تعودوهم وإذا ماتوا فلا تشهدوهم " وروى هذا الحديث جمعٌ من أهل العلم منهم : الحاكم والبيهقي والطبراني والبغوي وابن أبي عاصم وصححه القطان وحسنه أبوحاتم الرازي والألباني . . قال الخطابي في شرح صحيح مسلم : " إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثنوية - أي قام مذهبهم على أصلين اثنين - وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً ، لايكون شيءٌ منها إلا بمشيئته ، فهذه مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وايجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتسابا " انتهى ،
عباد الله : إن أعظم مايترتب على نفي القدر كما يعتقد بعض من يدّعي الإسلام ،هو أن الله يجهل ماتصير إليه الأمور في مستقبل الزمان وما يكون من مصير الخلائق في دار الجحيم أو دار النعيم وذلك ينافي اسم الله " العليم " ويُنسب لله الجهل جل جلاله واعتلى كماله وذلك - أي الجهل - وصف نقص وسوء لاينبغي لله تعالى وممتنع على الله ولايمكن أن يكون ربنا تبارك وتعالى لديه ذرة من هذا الوصف ، وينافي أيضاً اسم الله " المحيط " واسم الله " المهيمن " واسم الله " القدير " و " القادر " و " الخبير " وغيرها فلا يمكن أن يكون محيطاً بكل شيء ولا مهيمنٌ على العالم ولا قادر قدير عليهم ولا خبيرٌ بأحوالهم إذا كان لديه شيء من هذا الوصف سبحانه وتعالى
علم الأمور صغيرها وكبيرها * فهو الإله الحق والمعبودُ
وصدق القائل إذ يقول :
لاتصلح الأحوال إلا بالذي * خلق الوجودَ وقدّر الموجودا
عباد الله : إن الخوض في مسائل القدر عموماً بابٌ من أبواب الحيرة والشك لمن لم يكن له علمٌ يقوّمه إذا ضلّ ويرده إذا زلّ وكذلك لمن لم يكون له إيمان ٌ متين ويقينٌ صادقٌ لايستكين للوساوس والشكوك ، وقد حذر العلماء كثيراً من الخوض والكلام في شأن القدر لأنه يفتح على ابن آدم وسوسة الشيطان ونزغه وتشكيكه في الغيبيات ويطرحه في عالم الماديات ، فما يزال يغوص في لجج الدنيا والحياة المادية حتى يُنكر وجود الله وليس القدر فقط أعاذنا الله وإياكم ، فالواجب البعد عن الخوض في مسائل القدر ، وذلك أسلم للدين وأعلى لليقين في القلوب ويكفيه من ذلك أن الله قدّر الأمور ويعلم مافي الصدور وأحوال الأحياء والموتى من أهل القبور وأنه لايضل ولا ينسى ولا عن علمه شيء يخفى وأنه أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا
فاطرح الشك ودع عنك الردى * تالله خاب من بقوله اعتدى
رب العبـــاد قد أحاط علمه * بما يكون غائباً بلا مـــدى
أوجـد كل خلقه بحــــكمة ٍ * سبحانه لم يخلق الخلق سُدى
ولهذا - ياعباد الله صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا ذُكر القدر فأمسكوا " أي عن الكلام والخوض فيه ، وروى هذا الأثر الطبراني وصححه جمعٌ من أهل العلم منهم الألباني .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : " وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه ، لم يُطلع على ذلك ملكٌ مقرّب ولا نبيٌ مرسل والتعمّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلّم الحرمان ودرج الطغيان ، فالحذر كلّ الحذر من ذلك نظراً أو فكراً أو وسوسةً ، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه ، كما قال عز وجل : ( لايُسأل عن مايفعل وهم يُسالون ) وقال أيضاً : " العلم علمان : علمٌ في الخلق موجود ، وعلمٌ في الخلق مفقود ، فإنكار العلم الموجود كفر ، وادعاء العلم المفقود كفر ، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود ، وبردّ طلب العلم المفقود " .
وقال ابن عبدالبر في الإستذكار : " قد أكثر أهل الحديث في تخريج الآثار في هذا الباب وأكثرَ المتكلمون فيه من الكلام والجدال ، وأما أهل السنّة فيجتمون على الإيمان بالقدر على ماجاء في هذه الآثار ، وعلى اعتقاد معانيها وترك المجادلة فيها " انتهى كلامه
أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
========== الخطبة الثانيه ==========
الحمدلله الذي خلق فسوى وقدر فهدى والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى نبينا محمد صى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين صلاة تترى وسلاماً ينال به العبد ثواباً وأجرا أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن للإيمان بالقدر ثمرات عظيمة تتجلى في عدة أمور منها :
* الإخلاص لله تعالى بانصراف القلب إليه لا إلى غيره لأنه مادام أنه يعلم أن مامن أمرٍ يجري عليه وقضاءٍ يكون له إلا بقدر الله تعالى فيُخلص له وينصرف قلبه بالكلية لله فيطلب من الله أن يردّ الشر عنه ويقضي له بالخير والتوفيق لنيل مرضاته واجتناب سخطه وينصرف عن العباد جُملة واحدة لأنه يعلم أنهم لايملكون خيراً ولا شراً ولا نفعاً ولاضُرا إلا بقدرة الله الذي أقدرهم على ذلك .
* أن الإيمان بالقدر يبعث على الطمأنينة في النفس ويُهيء للمؤمن الحياة السعيدة وفي المقابل من كان طبعه مناكفة الله في قضاءه وقدره والتسخط لما يجري عليه من أقدار ، فإنه يشقى في الدنيا والآخرة فلا هو ظفر بالسعادة في الدينا ولا بالفوز في الآخرة وهذا كله يرجع للإعراض عن الله تعالى وقلة إيمان العبد والتسليم للخالق فيما يقضي ويدبّر وصدق الله جل جلاله حين قال : " فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك أياتنا فسيتها وكذلك اليوم تُنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذا بالآخرة أشد وأبقى " .
*ومنها : أن الرضا بقضاء الله وقدره سبب لمرضاة الله عن العبد والعكس بالعكس وهو أن سخط العبد وتضجّره سبب لسخط الله عليه وموجبٌ للعقوبة والعذاب وكما ورد في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط " رواه الترمذي .
*ومنها : أن الرضا سبب للبركة والرزق والتوسيع على العبد ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليبتلي العبد فيما أعطاه فإن رضي بما قُسم له بورك له ووسّعه ، وإن لم يرضَ لم يبارك له ولم يُزد على ماكُتب له " رواه الإمام احمد والبيهقي .
* ومنها : أن يعلم العبد مدى رحمة الله به وذلك أنه أمهله ولم يمكربه ويؤخر له العقوبة في الآخرة وكما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله بعبده الخير عجّل الله له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة " رواه الترمذي وصححه وذلك أن من لطف الله تعالى بعباده حصول البلاء لهم في الدنيا ليحصل لهم تكفير الذنوب وتصفو لهم بعد ذلك الآخرة فهم يصبِرون قليلاً ويُؤجرون كثيرا بعكس المتسخطين الذين يطول عليهم الشقاء ولا يُؤجرون إلا قليلا ً ، فاللهم اهدنا للرضا والتسليم ياجواد ياكريم ياحي ياقيوم ، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ، اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضله ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين لاضالّين ولا مضلين يارب العالمين .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
وقد أرشد الله عباده في كتابه وسنة نبيه بوجوب الإيمان به ايماناً جازماً ويقيناً صادقاً وحذر من الكفر به ، و لا يُطلق على شاك بهِ و جاحدٍ له أنه مؤمن ومن جملة هذه الآيات قوله تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر " وقال جل جلاله : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " وقال سبحانه : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقال سبحانه " ماأصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختالٍ فخور " ، ومن سنّة المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإيمان كما أخرجه مسلم في صحيحه قال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " .
وكما ورد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : " يابُني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ماخلق الله القلم ، فقال له اكتب : فقال : ربِّ وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " ثم قال لابنه : يابُني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من مات على غير هذا فليس مني " وفي رواية لأحمد : " إن أول ماخلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " وفي رواية لابن وهب " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار " .
ومن ذلك أيضاً ماجاء في سنن أبي داوود من حديث ابن الديلمي التابعي رضي الله عنه قال : أتيت أُبي بن كعب - الصحابي الجليل - فقلت له : وقع في نفسي شيءٌ من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يُذهبَه من قلبي ، فقال له : " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذّّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحدٍ ذهباً في سبيل الله ماقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ماأصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو متّ على غير هذا لدخلت النار " قال ابن الديلمي : " ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك ، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك " .
عباد الله : بل إننا نقول تباعاً لذلك أن الله ورسوله قد وصف الذين ينفون القدر ويقولون : ( لاقدر ) ويُسموّن " القدرية " وصفهم بأنهم مجوس هذه الأمة وأن لايُزاروا إذا مُرضوا ولا تُشهد جنائزهم إذا ماتوا ، نعوذ بالله من الخسران فقد روى أبوداوود في سننه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القدرية مجوس هذه الأمة ، إذا مرضوا فلا تعودوهم وإذا ماتوا فلا تشهدوهم " وروى هذا الحديث جمعٌ من أهل العلم منهم : الحاكم والبيهقي والطبراني والبغوي وابن أبي عاصم وصححه القطان وحسنه أبوحاتم الرازي والألباني . . قال الخطابي في شرح صحيح مسلم : " إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثنوية - أي قام مذهبهم على أصلين اثنين - وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً ، لايكون شيءٌ منها إلا بمشيئته ، فهذه مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وايجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتسابا " انتهى ،
عباد الله : إن أعظم مايترتب على نفي القدر كما يعتقد بعض من يدّعي الإسلام ،هو أن الله يجهل ماتصير إليه الأمور في مستقبل الزمان وما يكون من مصير الخلائق في دار الجحيم أو دار النعيم وذلك ينافي اسم الله " العليم " ويُنسب لله الجهل جل جلاله واعتلى كماله وذلك - أي الجهل - وصف نقص وسوء لاينبغي لله تعالى وممتنع على الله ولايمكن أن يكون ربنا تبارك وتعالى لديه ذرة من هذا الوصف ، وينافي أيضاً اسم الله " المحيط " واسم الله " المهيمن " واسم الله " القدير " و " القادر " و " الخبير " وغيرها فلا يمكن أن يكون محيطاً بكل شيء ولا مهيمنٌ على العالم ولا قادر قدير عليهم ولا خبيرٌ بأحوالهم إذا كان لديه شيء من هذا الوصف سبحانه وتعالى
علم الأمور صغيرها وكبيرها * فهو الإله الحق والمعبودُ
وصدق القائل إذ يقول :
لاتصلح الأحوال إلا بالذي * خلق الوجودَ وقدّر الموجودا
عباد الله : إن الخوض في مسائل القدر عموماً بابٌ من أبواب الحيرة والشك لمن لم يكن له علمٌ يقوّمه إذا ضلّ ويرده إذا زلّ وكذلك لمن لم يكون له إيمان ٌ متين ويقينٌ صادقٌ لايستكين للوساوس والشكوك ، وقد حذر العلماء كثيراً من الخوض والكلام في شأن القدر لأنه يفتح على ابن آدم وسوسة الشيطان ونزغه وتشكيكه في الغيبيات ويطرحه في عالم الماديات ، فما يزال يغوص في لجج الدنيا والحياة المادية حتى يُنكر وجود الله وليس القدر فقط أعاذنا الله وإياكم ، فالواجب البعد عن الخوض في مسائل القدر ، وذلك أسلم للدين وأعلى لليقين في القلوب ويكفيه من ذلك أن الله قدّر الأمور ويعلم مافي الصدور وأحوال الأحياء والموتى من أهل القبور وأنه لايضل ولا ينسى ولا عن علمه شيء يخفى وأنه أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا
فاطرح الشك ودع عنك الردى * تالله خاب من بقوله اعتدى
رب العبـــاد قد أحاط علمه * بما يكون غائباً بلا مـــدى
أوجـد كل خلقه بحــــكمة ٍ * سبحانه لم يخلق الخلق سُدى
ولهذا - ياعباد الله صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا ذُكر القدر فأمسكوا " أي عن الكلام والخوض فيه ، وروى هذا الأثر الطبراني وصححه جمعٌ من أهل العلم منهم الألباني .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : " وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه ، لم يُطلع على ذلك ملكٌ مقرّب ولا نبيٌ مرسل والتعمّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلّم الحرمان ودرج الطغيان ، فالحذر كلّ الحذر من ذلك نظراً أو فكراً أو وسوسةً ، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه ، كما قال عز وجل : ( لايُسأل عن مايفعل وهم يُسالون ) وقال أيضاً : " العلم علمان : علمٌ في الخلق موجود ، وعلمٌ في الخلق مفقود ، فإنكار العلم الموجود كفر ، وادعاء العلم المفقود كفر ، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود ، وبردّ طلب العلم المفقود " .
وقال ابن عبدالبر في الإستذكار : " قد أكثر أهل الحديث في تخريج الآثار في هذا الباب وأكثرَ المتكلمون فيه من الكلام والجدال ، وأما أهل السنّة فيجتمون على الإيمان بالقدر على ماجاء في هذه الآثار ، وعلى اعتقاد معانيها وترك المجادلة فيها " انتهى كلامه
أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
========== الخطبة الثانيه ==========
الحمدلله الذي خلق فسوى وقدر فهدى والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى نبينا محمد صى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين صلاة تترى وسلاماً ينال به العبد ثواباً وأجرا أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن للإيمان بالقدر ثمرات عظيمة تتجلى في عدة أمور منها :
* الإخلاص لله تعالى بانصراف القلب إليه لا إلى غيره لأنه مادام أنه يعلم أن مامن أمرٍ يجري عليه وقضاءٍ يكون له إلا بقدر الله تعالى فيُخلص له وينصرف قلبه بالكلية لله فيطلب من الله أن يردّ الشر عنه ويقضي له بالخير والتوفيق لنيل مرضاته واجتناب سخطه وينصرف عن العباد جُملة واحدة لأنه يعلم أنهم لايملكون خيراً ولا شراً ولا نفعاً ولاضُرا إلا بقدرة الله الذي أقدرهم على ذلك .
* أن الإيمان بالقدر يبعث على الطمأنينة في النفس ويُهيء للمؤمن الحياة السعيدة وفي المقابل من كان طبعه مناكفة الله في قضاءه وقدره والتسخط لما يجري عليه من أقدار ، فإنه يشقى في الدنيا والآخرة فلا هو ظفر بالسعادة في الدينا ولا بالفوز في الآخرة وهذا كله يرجع للإعراض عن الله تعالى وقلة إيمان العبد والتسليم للخالق فيما يقضي ويدبّر وصدق الله جل جلاله حين قال : " فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك أياتنا فسيتها وكذلك اليوم تُنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذا بالآخرة أشد وأبقى " .
*ومنها : أن الرضا بقضاء الله وقدره سبب لمرضاة الله عن العبد والعكس بالعكس وهو أن سخط العبد وتضجّره سبب لسخط الله عليه وموجبٌ للعقوبة والعذاب وكما ورد في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط " رواه الترمذي .
*ومنها : أن الرضا سبب للبركة والرزق والتوسيع على العبد ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليبتلي العبد فيما أعطاه فإن رضي بما قُسم له بورك له ووسّعه ، وإن لم يرضَ لم يبارك له ولم يُزد على ماكُتب له " رواه الإمام احمد والبيهقي .
* ومنها : أن يعلم العبد مدى رحمة الله به وذلك أنه أمهله ولم يمكربه ويؤخر له العقوبة في الآخرة وكما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله بعبده الخير عجّل الله له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة " رواه الترمذي وصححه وذلك أن من لطف الله تعالى بعباده حصول البلاء لهم في الدنيا ليحصل لهم تكفير الذنوب وتصفو لهم بعد ذلك الآخرة فهم يصبِرون قليلاً ويُؤجرون كثيرا بعكس المتسخطين الذين يطول عليهم الشقاء ولا يُؤجرون إلا قليلا ً ، فاللهم اهدنا للرضا والتسليم ياجواد ياكريم ياحي ياقيوم ، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ، اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضله ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين لاضالّين ولا مضلين يارب العالمين .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق