فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن مما يؤسف في زمننا هذا ويحزن القلب ويؤنب الضمير ويجلب للنفس الكدر عندما ترى الكثير من عباد الله علاقته بكلام الله علاقة سطحية غير وثيقة وكذلك عندما ترى الكثير منهم هاجرٌ للقرآن فلا تجدُ للقرآن أي أثر على سلوكه وتصرفاته ولا على تربية أبناءه وأولاده ولا ينعكس على تعامله مع عامة الناس وكأنه لايحفظ من كلام الله إلا فاتحة الكتاب ولا يُقيم القرآن في كثيرٍ من شؤونه حتى في صلاته وبالنسبة لهجر قراءته لاتجد أنه يعرف القرآن إلا في رمضان من الحول إلى الحول فبالله من أين يأتي الفلاح لهذا الرجل ؟ ومن أين سيعرف أحكام الدين البدائية فضلاً عن أحكامها الثانوية والتشريعية ، فالبعض مهمّشٌ كتاب الله في حياته وكأنه لايعنيه ولم يُنزل للناس كافّة .
أيها المسلمون : كتاب الله هدى ورحمة يهدي من الضلالة ويدفع الغواية والجهالة ورحمة لعباد الله لمن تمسك به وينتهي بصاحبه إلى جنات النعيم وهو حبل الله المتين المدود بين عباده وهو العروة الوثيقة للنجاة من الفتن فيه نبأ ماقبلنا وخبر مابعنا وحكم مابيننا وهو الفصل ليس بالهزل ( إنه لقولٌ فصل * وماهو بالهزل ) من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي يهدي لأقوم سبيل ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ) لاتزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يَخلِق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه يتفتق عن أفصح عبارة وعن أقوى حجة وأبلغ بيان وهو الذي تعجبت الجن من سماعه فانطلقوا إلى قومهم يقولون : ( . . إنا سمعنا قرآناً عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشركَ بربنا أحدا ) فمن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به وتلاه أُجر وأثيب ، قد وصفه الله بالبركة حيث قال سبحانه : ( وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ) .
عبادالله : البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ليكثر خيره ويتسع بأهله وتحضره الملائكة وتخرج من ذلك البيت الشياطين والعكس بالعكس فإن البيت الذي يهجر أهله القرآن ولايُقرأ فيه ليقل خيره ويضيق بأهله وتدخله الشياطين وتخرج منه الملائكة وهذا الكلام يردده السلف الصالح مع مافي كتاب الله من الشفاء والنور والموعظة والعبرة ( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين ) ( وننزّلُ من القرآن ماهو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ) وهو كتابٌ عظيم يشفع لأصحابه الذين يديمون تلاوته ويعملون به وفي الحديث الصحيح : " اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه " ويُحاج عن صاحبه وتُحاجان بالخصوص سورة البقرة وآل عمران ففي حديث النوّاس بن سمعان رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدُمُه سورة البقرة وآل عمران تُحاجّان عن صاحبهما " .
وهاتان السورتان - أي البقرة وآل عمران - تسميان الزهراوين فلو أن المسلم إذا عجز عن حفظ القرآن كاملاً حفظ هاتين السورتين وعمل بهما لنال أجراً عظيماً لأنهما ورد في فضلهما على وجه الخصوص أدلّة متقاربة اللفظ ومنها حديث أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهم فِرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما " رواه مسلم في صحيحه وفي تبشير القرآن لصاحبه في الآخرة ورد حديث بُريدة بن الحُصيب الذي في مسند أحمد وسنن ابن ماجه أنه - رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن القرآن يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : ماأعرفك ، فيقول : أنا صحابك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، فيعطى الملك بيمينه والخُلد بشماله ، ويُوضع على رأسه تاج الوقار ، ويُكسى والداه حلّتين لايقوم لهما أهل الدُنيا ، فيقول : بم كُسينا هذه ؟ فيقول بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يُقال له اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرَفها فهو في صعود مادام يقرأ هذاً كان أو ترتيلا " وصدق ربنا حين قال :
( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدَهم من فضله إنه غفورٌ شكور )
عبادالله : كلٌ منّا يريد أن يكون من المقربين إلى الله المنافسين على أعالي المنازل في جنة الرحمن وذلك عملٌ يسير لمن أراد الله رفعته وتقريبه وذلك أن تحرص أن تكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( أهل القرآن هم أهل الله وخاصّتُه ) كما أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في صحيحه ، فهل كنت يوماً من الأيام معلماً إن استطعت ذلك ؟ أو حاثّاً على ذلك أو متعلماً أوناشراً لكل مايخص كتاب الله لتشارك في هذا الفضل وينتشر الإهتمام بين المسلمين في هذا الشأن ، فما رأينا من قصور في العبادات أو المعاملات بين المسلمين أو مقارفة للمعاصي والسيئات أو تسلطٍ للأعداء على هذه الأمة إلا بسبب بعدهم عن دين الله وكتاب ربهم فاللهم رُد ضالّ المسلمين إليك ردّاً جميلا ، واهدنا إلى كل مافيه خيرٌ لنا في ديننا ودنيانا ياذا الجلال والإكرام ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
=================== الخطبة الثانية =================
الحمدلله رب الأرباب وخالق الخلق من تراب الذي علم الفرقان والكتاب وأرسل رسوله بالهدى وفاضل الأخلاق والآداب والصلاة والسلام على النبي والأصحاب ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم للحساب أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - وأكثروا من التقرب لله بكلامه والتقرب لله بكلامه - بالجملة - أفضل من التقرب لله بذكره وكلاهما عملٌ جليل فاضل فيه السباق والتنافس على مرضاة الله تعالى والفوز برفيع المقامات عنده جل وعلا ، ولذا ورد عن خبّاب بن الأرت الصحابي الجليل رضي الله عنه أنه قال : " تقرب إلى الله مااستطعت ، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحبُ إليه من كلامه " .
عباد الله عنِيَ السلف الصالح رضوان الله عليهم بحفظ كتاب الله ومدارسته في المساجد والحلقات القرآنية منذ زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وكان السلف يحرصون أشد الحرص على تعليم أبناءهم كتاب الله منذ الصغر ليتفرّغ لتدريسه حال الكِبر ولينفع أهله ونفسه ويقوم به في الليل وكل ذلك في حال الأمن وفي حال الخوف ومن أعجب القصَص التي تُبشّر وتُفرح المؤمن ما حدث في بعض دول جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تحت الحكم الروسي الظالم حين عانى المسلمون من البطش الروسي والقمعي وإزالة مظاهر الإسلام بالقوة والنار ومع ذلك لم ييأس الكثير من المسلمين في تلك البلاد بل حفروا سراديب تحت الأرض وكونوا لهم غرفاً ومغارات يعيشون فيها وأنشأوا لهم مدارسَ وحلقات تحت الأرض يعلمون فيها أبناءهم حتى أن بعضُهم يجعل ابنه في تلك الحلقة ويغيب عنه زمناً طويلاً ومن ثم يعود إليه وقد أتمّ حفظ كتاب الله تعالى ، فهل لنا فيهم عبرة وعظة ؟ وأولادنا اليوم لديهم من وسائل العيش والراحة والتقنية الحديثة ومع ذلك تجد أن لديه من الضعف والجهل ماتعجبُ له فأين الوعي وأين العطاء من الآباء والأمهات ؟ ومتابعة التعليم للأبناء والبنات ؟
عباد الله : في مدارسنا هذا اليوم عانى الطلاب والمعلمون من فاقد تعليمي لم يتم تحصيله من قِبل الطلاب بالجملة وهي مسؤولية مشتركة بين الجميع سواءاً كان ولي أمر أو معلمٌ أو طالب واليوم وبعد انطلاق أنشطة جمعيات تحفيظ القرآن الكريم تحث الجمعية أولياء الأمور على حث أبناءهم على الإلتحاق بالحلقات القرآنية سواءاً كان ذلك عن بُعد أو حضورياً في حال توفر ذلك وكل ذلك سدّاً للضعف الدراسي في القرآن الكريم خاصّة وفي هذه السنة تمّ إطلاق برنامجٍ قرآني للمتقاعدين ولأول مرة فنهيب بالجميع الحرص على مثل هذه البرامج والحلقات النافعة أو الحث عليها لمن يعول وكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته .