الجمعة، 10 سبتمبر 2021

خطبة عن بلاغة القرآن وإعجازه

الحمدلله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وأسبغ به النعمة على عباده إنه كان حليماً قديرا نحمده حمداً كثيراً ونشكره وهو أهل الثناء والمجد إنه كان بعباده خبيراً بصيرا والصلاة والسلام على نبي الرحمة ورسول الأمة الذي أرسله إلى الثقلين داعياً وسراجاً منيراً فسهل به ماكان عسيراً وبعثه بالحنيفية السمحة وقوّض الله به الشرك والوثنية وكان ذلك على الله يسيرا أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين أمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محمدثة في دين الله بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار ) .
عباد الله : أنزل الله عز وجل هذا القرآن العظيم ليكون نبراساً ونوراً ومشعلاً وهدىً ورحمة لهذه الأمة والأمم القادمة والأجيال المقبلة إلى ماشاء الله وجعل هذا الكتاب هو الكتاب الخاتم لجميع الكتب السماوية السابقة وهو مهيمنٌ عليها جميعاً حيث قال سبحانه : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومُهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عمّا جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) . وإذا كان القرآن مهيمناً على الكتب السابقة لزم أن يكون حاوياً للكثير من الأخبار والقَصص والكثير من الإعجاز العلمي والأسلوب البلاغي والأحكام وكل مايحتاجه الإنسان إلى أن تقوم الساعة فهو الكتاب الآخِر ولا إنزال بعده كما أن النبيَ صلى الله عليه وسلم هو النبي الآخِر ولا نبي بعده ولذا في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مامنَ الأنبياء من نبي إلا أوتي من الآيات ماآمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
ومعنى ذلك أن آيات الأنبياء ومعجزاتهم كانت انقرضت وذهبت بذهاب الأنبياء وأقوامهم ممن سبق ولم يُشاهدها إلا من حضرها بحضرتهم وأما معجزة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهي القرآن المحفوظ إلى يوم القيامة فلزم ذلك أن يحوي من الآيات والمعجزات على مرّ السنين ، ولذا اختار ابن حجر في الفتح ونقل قولاً ومكملاً لما سبق حيث ذكر بأن المعجزات الماضية كانت حسيّة تُشاهد بالإبصار كناقة صالح وعصا موسى وأن معجزة القرآن تُشاهد بالبصيرة فيكون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها أكثر لأن الذي يُشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مُشَاهده والذي يُشاهد بعين العقل باقٍ يُشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً " وقال أيضاً : " وليس المراد حصر مُعجزاته فيهن ولا أنه لم يؤت - أي النبي صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ماأوتي من تقدمه ، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختُص بها دون غيره " .
عباد الله : كان رجاء النبي صلى الله عليه وسلم في كونه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة متحققاً وذلك لخلود كتاب الله واطلاع الأجيال عليه من بعد جيل الصحابة إلى يومنا هذا وإلى ماشاء الله لآخر الزمان ويدلل لذلك ماورد في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عن أن النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة " بل في الحديث الصحيح الآخر الذي أخرجه الإمام أحمد رحمه الله وابن ماجه أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة فقد روى الصحابي الجليل بُريدة بن الحُصيب الأسلمي رضي الله عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم " والحديث صححه الألباني وقال الأرنؤوط : " أن اسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح "
عباد الله : لما كان كتاب الله معجزاً بذاته وبلاغته وفصاحته وأسلوبه كان لابد أن نقف على بعضٍ من هذه الأساليب التي يفرق الله بها كلامه عن كلام البشر مع مافيه من انجذاب النفس أياً كانت مسلمة أو كافرة وإحساسها بالراحة حين سماعه وقد جُرّب ذلك مع خلق كثير من عقلاء البشر من الكفار والملحدين وأهل الشرك وغيرهم والأساليب البلاغية في كتاب الله لاتنحصر وأكثرها تتجلى في الأمثلة والتشبيه وعموم الألفاظ وتقديمها وتأخيرها واستخدام الأفعال بانتقاء والإستعارة والجناس والطباق واستخدام الإسفهام بأساليبه المختلفة وأساليب التأكيد بأدواته ولعلنا أن نورد مثالاً لتلك الأساليب فمن ذلك :
* قول الله تعالى : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . .) الآية وفي المقابل : ( ومثلُ الله مثلاً كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار . . ) الآية ، والله ضرب هذا المثل لكي تتأمل أثر الكلمة على النفس حيث شبهها الله بالشجرة التي تنمو وتزداد ويطول نموها ومن ثم تؤتي ثمارها وكذلك أثر الكلمة على النفس فمن قال تلك الكلمة إن كانت طيبة وموجهة لتلك النفس كان لها الأثر لو بعد حين وإن كانت كلمة خبيثة موجهة لنفس كان لها الأثر السيء والتبعات في المعاملة فالكلام ياعباد الله لابد أن يكون بميزان واعتدال وملاطفة .
* وفي عموم الألفاظ في القرآن وهو كثير - قال جلا وعلا : ( ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر ) فعمم التكاثر ليشمل كل مايحرص الإنسان على كثرته من الذريّة والبيوت والنساء والنقد والعقار وغير ذلك
* وفي التقديم والتأخير قال سبحانه :( وهو العزير الحكيم ) فقدّم العزة على الحكمة أو الحكم لأنه سبحانه عزّ فحكم ويقدم سبحانه بعض أسمائه على بعض لسياق معيّن وذلك منتشر في المتاب العزيز وقال في الأوامر : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبيرٌ بما يصنعون ) فأمر بغض البصر أولاً وقدّمه على حفظ الفرج لأن البصر هو السبيل لإثارة الشهوات فكان تقديمه أنسب .
* وفي استخدام الأفعال والتبديل بين البناء فيها للمجهول أو للمعلوم للفت انتباه السامع للمعنى والمقصود قال تعالى : ( ويُطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ) وقال في آية أخرى : ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون ) فلما كان المقصود الآنية في الآية الأولى بنى الفعل للمجهول ولم يُظهر الفاعل وفي الآية الثانية لمّا كان لفت الناظر إلى الخدم وهم الولدان المخلدون بنى الفعل للمعلوم وله في كتاب الله نظائر وأشباه .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

=============== الخطبة الثانية ================

الحمدلله رب المثاني والقرآن العظيم أحمده وهو العلي الحكيم وأصلي وأسلم على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ودخول دار النعيم أما بعد :
عباد الله : من الأسايب البلاغية في القرآن مايسمى في علم البلاغة بالإستعارة مثل قول الله تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) والسلخ عادة يكون للشاة فاستعمل هذا المعنى في سلخ النهار من الليل لأن كلا الوجهين وهما سلخ الجلد وسلخ النهار متقاربين بالطريقة والكيفية وكذلك قوله تعالى : ( والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس ) والعس هو حراسة الليل من قِبل أفراد الحراسة والشرطة خفية وعسعسة الذئب طوافه ليلاً وطلبه لفريسته بتدرج متخفياً وهذا في الليل متحقق فإنه يأتي خفية بتدرج ولا يباغت مباشرة وذكر في الصبح أنه يتنفس فشبهه بالكائن الحي الذي فُـك قيده أو كتمت أنفاسه والصبح تحرر من الظلمة التي تغلب على الكون السفلي وهذا الأسلوب من أبدع صور الجمال والبلاغة في كتاب الله .
وللجناس في كتاب الله أمثلة والمراد بالجناس تشابه كلمتين في اللفظ مع اختلاف في المعنى مثل قول الله تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ) فالساعة في قوله ويوم تقوم الساعة غير لفظة ساعة وهي البرهة من الزمن ، ومثله قول الله تعالى : ( والتفت الساق بالساق * إلى ربّك يومئذٍ المساق ) فهناك فرقٌ بين الساق والمساق وكلاهما لفظان مشتبهان في اللفظ ومختلفان في المعنى مع أن جذرهما واحد في اللغة وهو السين والقاف وكذلك قول الله تعالى : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) فناضرة في الأولى وناظرة في الثانية متقاربان لفظاً ومختلفان معنى فهناك فرق بين النضارة وهي الحسن والنظر وهو المشاهدة والرؤية .
والطباق وهو مقرونٌ مع الجناس عادة في كلام أهل اللغة ويعني الجمع بين معنيين متقابلين أو متضادين في سياق واحد في الآية مثلما قال الله تعالى عن أهل الكهف : ( وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود . . ) الآية وقول الله تعالى في الواقعة : ( خافضة رافعة ) وكذلك عندما قال عن ذاته العليه : ( وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا * وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تُمنى ) وغير ذلك من المحسنات البديعية في كتاب الله تعالى .
وقال في الإستفهام وهو بابٌ واسع في كتاب ربنا العزيز قال : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ماأنزل الله قالوا بل نتبع ماألفينا عليه آبائنا أولو كان أباؤهم لايعلمون شيئاً ولا يهتدون ) فانظر إلى الإستفهام الإنكاري وحث المخالف على التبصر فيما يفعل وكذلك قول الله تعالى : ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون * أثمّ إذا ماوقع آمنتم به الْآن وقد كنتم به تسعجلون ) فانظر كيف ردُّه بتوبيخ وإنكار على المخالف وعلى من كفر بعذاب الله تعالى باستفهامين قارعين للقلوب بأرفع خطاب وأبدع فصاحة ( أثمّ إذا ماوقع آمنتم به ) وقوله ( الْآن وقد كنتم به تستعجلون ) وفي التأكيد قال جلا وعلا عن كتابه الكريم : ( وإنه لتكرةٌ للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين ) وقوله أيضاً : ( فإن مع العسر يُسرا * إن مع العسر يسرا ) وكذلك قوله سبحانه : ( كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون ) والتأكيد يأتي في كتاب الله لعدة أغراض منها : تأكيد المعنى ، وتعديد الأوصاف والتسلية والوعيد للمخالف وغير ذلك من الأغراض فاللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا ، اللهم ذكرنا منه مانُسيّنا وعلمنا منه ماجهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وآناء النهار على الوجه الذي يُرضيك عنّا . . وصلوا وسلموا على نبي الرحمة حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...