الأربعاء، 15 يونيو 2022

خطبة عن فتح مكة وماجرى فيها من أحداث

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : لمّا تتأملُ السيرة النبوية تجد أنه مرّ على الأمة يومٌ عظيم كان فصلاً بين دولة الإسلام ودولة الشرك وأتباعها وهو يومٌ مشهود فتح الله به على جند الإسلام وأهله وأعزهم الله به بعد أن لم تكن هيمنتهم تامّة وسيطرتهم عامّة على بلاد الحجاز ، يومٌ من أيام النصر والتمكين لمن طُرد عن بلده وأوذي عليه الصلاة والسلام هو ومن كان معه من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو يومٌ مفصلي وفارق بين منازل أهل الإيمان من الرعيل الأول فمن أسلم قبله وأنفق قبله وجاهد قبله ليس مساوياً لمن أسلم بعده وأنفق بعده وقاتل بعده فهو يوم فتح مكة الأعظم ( لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) وقعت أحداثه في السنة الثامنة من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان . 
عباد الله : كان سبب فتح مكة هو نقض صلح وخيانة وغدر فقد كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش فعل فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بكر بن عبدمناة من كنانة في عقد قريش ، وكان لخزاعة بئرٌ ماء يُقال له " الوتير " قرب مكة ، فعدت بكرٌ على خزاعة ليلاً وهم بمائهم فقتلوا منهم ، وكانت قريش قد أعانتهم بالسلاح وقاتل معهم من قريش أناسٌ مستخفين بجنح الظلام ، فخرج من خزاعة عمرو بن سالم إلى المدينة فدخل المسجد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني أصحابه فأعلمه بما صنعت بكر بن عبد مناة حليفة قريش وأنشد للنبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : 
ياربِّ إني ناشدٌ محمداً  * حلف أبينا وأبيه الأتلدا 
قد كنتموا وُلْداً وكنا والدا * ثُمّت أسلمنا ولم ننزع يدا 
فانصر هداك الله نصراً أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا 
فيهم رسول الله قد تجرّدا * أبيض مثل البدر يسمو صُعُدا 
إن سيم خسفاً وجهه تربدا * في فيلقٍ كالبحر يجري مزبدا 
إن قريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكـــدا
وجعلوا لي في كَددَاءٍ رُصّدا * وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عـــددا * هم بيّتونا بالوتير هُجّــــدا 
                 وقتلونا ركّعاً وسجّدا 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُصرت ياعمرو بن سالم " وخرج بُديل بن ورقاء في نفرٍ من خزاعة فقدموا المدينة وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بمن أصيب منهم وبمظاهرة قريش لبني بكر ، وكان أبو سفيان قادماً في الطريق يريد أن يستمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هاله ماصنعت قريش هو وزمرة منهم  ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العَقد ويزيد في المدة بعثته قريش ، وقد رهِبوا للذي صنعوا " فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في المصالحة والإمهال فلم يردّ عليه ، فذهب إلى أبي بكر يريد من أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشفعَ في ذلك فأبى ، فذهب لعمر رضي الله عنه يستشفعه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عمر : أنا أشفعُ لكم ؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به واستشفع بعلي رضي الله عنه فقال له علي : لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر مانستطيع أن نكلمه فيه " فرجع أبو سفيان لمكة خائباً خاسرا . 
ثم أمر النبيُ صلى الله عليه وسلم بالعُدّة للقتال والجَهاز له وقال : " اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبْغتُها في بلادها " .
ثم إن حاطب بن أبي بلتعة وكان ممن حضر بدراً أرسل لقريش كتابا مع مولاة لبني عبدالمطلب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحيُ يخبره بذلك فأرسل إليها علياً رضي الله عنه فألفاها بروضة خاخ فطلب الكتاب وجاء به للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب ماحملك على ماصنعت فقال : يارسول الله يدٌ عند قريش أحمي بها قرابتي وأهلي فقال عمر رضي الله عنه لقد نافق دعني أضرب عنقه يارسول الله فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " ومايدريك ياعمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم" فذرفت عيناه وقال : " الله ورسوله أعلم" . 
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش وعمّى الله الأخبار عن قريش ولكنهم على وجل ، وخرج العباس بأهله وعياله مسلماً مهاجراً حتى وافى النبيَ صلى الله عليه وسلم بالجحفة ثم ارتحل النبيُ صلى الله عليه وسلم حتى نزل  بمرّ الظهران ( يُقال له اليوم وادي فاطمة ) وكان حين العِشاء فأمر من معه أن يوقدوا نيراناً فأوقد عشرة آلاف نار وهي خدعة وتخويف ، وفي هذه الأثناء كان خارجاً أبو سفيان وبُديل بن ورقاء فراعهم هذه النيران ورغبوا أن يستأمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أقبلوا ورآهم عمر همّ أن يوقع بأبي سُفيان ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاره العباس وقال النبي للعباس : " إذهب به إلى رحلك فإذا اصبحت فائتني به " ففعل فلما كان من الغد أتاه به وعرض عليه الإسلام فتلكأ ، فقال العباس : ويحك ، أسلم قبل أن يضرب عُنقك ، قال : فشهد شهادة الحق فأسلم ، فقال العباس : إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، قال : " نعم ، من دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن " فكان ذلك ثباتاً لأبي سفيان على دين الحق ، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بجيشٍ عرمر حتى دخل مكة من أعلاها وأمر خالد بن الوليد فدخلها من أسفلها ، وقال : " إن عرض لكم أحدٌ من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا ، ووقع قتالٌ عند الخندمة وهو جبل  يقع شرق مكة حيث أنه تجمع سفهاء من قريش مع عكرمة بن أبي جهل وسُهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وتشابكوا مع جند المسلمين وفرّ أكثرهم ولم يُذكر أنه قُتل أحد ولكن تناوش وجراحات ، ودعا رسول الله الأنصار ، وقال لهم : " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم - ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى - احصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا " وبعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على جنبات مكة ، ورُكزت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون ، ثم نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه وحوله حتى دخل المسجد الحرام فأقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت ولم يكن يومئذٍ محرما ، فاقتصر على الطواف ، وقام على أصنام حول الكعبة وفوقها مايقارب ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بقوس في يده ويقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ( جاء الحق ومايُبدئ الباطل وما يُعيد ) ثم أمر بباب الكعبة ففتح ، فدخل معه أسامة بن زيد وبلال فأمر بالباب فأغلق ورأى صورة ابراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال : " أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " ثم أمر بالصور فمحيت ثم استقبل الجدار الذي يقابل الباب وصلى وكبر في نواحي الكعبة ثم أخذ بعضادتي باب الكعبة وقريش والناس تحته وقال : " لاإله إلا الله وحده لاشريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو مال أو دمٍ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتل الخطأ شبه العمد ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها ، يامعشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب " ثم تلا هذه الآية : 
( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ....) ثم قال : " يامعشر قريش ماترون أني فاعلٌ بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخٌ كريم وابن أخ ٍكريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فعفى عنهم عليه الصلاة والسلام بعد كل ماناله من أذيتهم فأي نفسٍ كريمة هذه ؟ ! ذلك مقام لايناله ولا يقوى عليه إلا نبي ٌ كريم ، فاللهم أحينا على سنته وتوفنا على ملته واحشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة لانظمأ بعدها أبدا ، أقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم  . 
============== الخطبة الثانية ===============
الحمدلله الذي منّ على عباده بالخيرات أحمده وهو أهل الحمد ووافر التحايا والصلوات ونشكره على فضله وعاطاياه السابغات والصلاة والسلام على المبعوث بالهدى والبينات نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان أزكى الصلوات من رب البريات أما بعد : 
لما استقر الفتح بمكة أمّن النبي الناسَ كلّهم إلا من كان له عدوّا لدوداً لله ورسوله وكانوا حينها تسعة نفر فإنه أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وهم عبدالله بن أبي سرْح وعكرمة بن أبي جهل وعبدالعزى بن خطل والحارث بن نُفيل ومَقيس بن صُبابة وهبّار بن الأسود وقينتان لابن خطل وسارة مولاة لبني عبدالمطلب ، فأما ابن أبي السرح فهرب واستجار بعثمان فأمسك عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عكرمة فاستأمنت له امرأته بعد أن هرب وعادت به فأسلم وحسُن إسلامه ، وأما ابن خطل ومَقيس والحارث وإحدى القينتين فقُتلوا ، وأما هبّار ففر ثم جاء فأسلم وحسُن إسلامه واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسارة ولإحدى القينتين فأسلمتا ، ولمّا كان من الغد من يوم الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً ثم حمد الله وأثنى عليه وقال : " أيها الناس ، إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فلا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك ، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار " 
ثم بعد ذلك بعث عتّاب بن أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم وحدودها وبعث صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي حول مكة فكُسّرت كلها ومنها اللات والعزى ومناة ، ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام بمكة : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره " . 
عباد الله : أعز الله دينه ونصر أولياءه بفتح مكة وفرح المسلمون بالنصر والتمكين ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُناصر قضايا المسلمين في كل مكان تنتهك فيه حُرمتهم ، ونحن اليوم نُطالب بنصر قضايا المسلمين في كل مكان في الشام واليمن والعراق والهند بأي نوعٍ من أنواع النصر ولو بكلمة ، فياأخي المبارك إذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام قال : " مامن مسلم يخذلُ مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يُحب فيه نصرته  " أخرجه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في التاريخ الكبير فما حالنا وحالكم فإننا نخشى من عقوبات عامة تنالنا جميعاً فاللهم اصرف عنا سوء العاقبة والمصير واجبر - اللهم - ضعفنا والتقصير ياقوي ياقدير 

الجمعة، 3 يونيو 2022

خطبة عن صلح الحديبية ومافيها من أحداث

الحمدلله عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير أحمده على وافر نعمه وهو الحميد القدير ونسأله من واسع فضله الوفير وهو العلي الكبير والصلاة والسلام على أفضل أنبيائه ورسله نبينا محمد وهو بالرسالة جدير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والكرم الغزير وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المصير أما بعد : 

فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى يفتح البصائر ويحيي الضمائر ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : من الأحداث المهمة التي وقعت في شهر ذي القعدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أثر لصالح المسلمين هو ( صُلح الحديبية ) وهذا الصلح كان في السنة السادسة من الهجرة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد العمرة في شهر ذي القعدة وكان ثلاثٌ من عُمُراته التي اعتمر في هذا الشهر إلا العمرة التي كانت مع حجته ، حتى قال بعض أهل العلم أن العمرة في ذي القعدة أفضل من العمرة في رمضان ، وهو خلاف الصواب وذلك أن العمرة في رمضان ورد فيها نص والعمرة في ذي القعدة لم يرد فيها نص ، ثم إنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد العمرة من المدينة خرج معه حوالي ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم يريدون العمرة بلا قتال ولا حرب ، وكان هو وأصحابه مشتاقين لبيت الله الحرام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ماخرج يريد البيت الحرام إلا استبشاراً برؤيا رآها في منامه أنهم يدخلون البيت الحرام بلا قتال آمنين منهم المحلّق ومنهم المقصر قد ذكرها الله في كتابه حيث يقول جل وعلا : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لاتخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا ) وقد كانت مكة تئن تحت وطأة المشركين من كفار قريش وأحلافهم  . 

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من البُدْن سبعون بدنة مقلدة وخرجت معه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأحرموا من ميقات ذي الحُليفة ولبَّوا ، وعندما كانوا بالطريق قريباً إلى مكة قرب عسفان  قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بكُراع الغميم فخذوا ذات اليمين  " فما شعر بهم خالد حتى رأى غُبرة الجيش فانطلق يركض نذيراً لكفار قريش ، ثم إنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثنيّة المرار قرب الحديبية ، بركت ناقته عليه الصلاة والسلام ، فقال الناس : خلأ القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ماخلأت القصواء وما ذلك لها بخُلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " فانظروا إلى هذه البهائم التي تعظم حرم الله وتجد من البشر من يستبيح البيت الحرام بأتفه سبب فتلك البهائم خيرٌ منه ، ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده ، لايسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " .. ثم زجر الناقة فوثبت فنزل بأقصى الحديبية على ( ثَمَد )  وهو حفر صغير يجتمع فيه ماء قليل فنزح الناس من الماء حتى قلّ فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأعطاهم سهماً من كنانته وأمرهم أن يرموه فيه فما زال ينبع بالماء حتى صدروا عنه وغادروه والحديبية مكانها في الشميسي غرب مكة بعضٌ منها في الحل وبعضٌ منها في الحرم ، ولمّا علمت قريش بنزوله فزعت فأرسل إليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال له : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمّاراً وادعهم إلى الإسلام وأمره أن يأتي رجالاً ونساءاً بمكة مؤمنين فيبشرهم بالفتح ، وأن الله عز وجل مظهرٌ دينه بمكة ، حتى لايُستخفى فيها بالإيمان " ولما ذهب عثمان رضي الله عنه وأشيع عنه أنه قُتل ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم من خرج معه إلى البيعة فتبادروا إليه وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لايفروا ، ثم أخذ بإحدى يديه على الأخرى وقال : " هذه عن عثمان " ، ثم إنه لمّا تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه . 

 عباد الله : قررت قريش أن لايدخل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه البيت عنوة وجهزوا حوالي ثمانية آلاف مقاتل يريدون أن يصدوا النبيَ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت وتترسوا في عدد من المواقع حول مكة ، وجاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة يخبره أن قريش تنزي قتاله وصدّه عن البيت فقال : " إنا لم نجيئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريش نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويُخلّوا بيني وبين الناس ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا - أي الإسلام - وإلا فقد جمّوا - أي استراحوا - ، وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي - والسالفة صفحة العنق أي أنني أُقتل - أو لينفذنّ الله أمره " فقال بُديل سأبلغهم ماتقول فعرضه عليهم ، فقال عروة بن مسعود لصناديد قريش : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آتيه ، فقالوا : ائته ، فأتاه فجعل يُكلّمه فقال له نحواً من قول بُديل ، ثم قال له : " أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح قومه قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى أوشاباً من الناس - أي أخلاطاً من الناس - خليقاً أن يفروا ويدعوك  " ، فقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه : " امصُص بَظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه " ، إلى أن جاء سُهيل بن عمرو فقال النبي صلى اله عليه وسلم : " قد سُهل لكم من أمركم " فقال : هات أكتب بيننا وبينك كتاباً فدعا الكاتب - وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : " اكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل : أما الرحمن ، فما أدري ماهو ؟ ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لانكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " ثم قال : " اكتب : هذا ماقاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل :  والله لو نعلم أنك رسول الله ماصددناك عن البيت ، ولكن اكتب محمد بن عبدالله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبدالله " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تُخلُّوا بيننا وبين البيت فنطوّف به " فقال سهيل : والله لاتحدّث العرب أننا أُخذنا ضُغطَة ، ولكن ذاك من العام المقبل ، فقال سهيل :       " وعلى أن لايأتيك رجلٌ منّا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " فقال المسلمون : " سبحان الله ! كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مُسلماً " . 

فبينا هم كذلك إذا جاء أبوجندل بن سهيل خارجاً من أسفل مكة يرسُف في قيوده حتى رمي بنفسه بين المسلمين فقال سُهيل : هذا أول ماأقاضيك عليه أن ترده إليّ ، فقال أبوجندل : كيف أُردّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً - وكان قد عُذّب في الله عذاباً شديدا - فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " والله ماشككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت يارسول الله : ألست نبي الله ؟ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال :  بلى ، فقلت : فلم نُعطي الدنيّة في ديننا ؟ ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ، قلت : أولست تحدثنا أنّا نأتي البيت ونطوّف به ، قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ - أي هذا العام - قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوّفٌ به ، قال عمر رضي الله عنه : فأتيت أبا بكر فقلت له مثلما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليّ كما رد عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد : فاستمسك بعرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، فعملت لذلك أعمالاً " أي صالحه ، رزقنا الله حسن الإنابة وصدق التوبة أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم  . 

============== الخطبة الثانية =============

الحمدلله الذي بيده مقاليد السماوات والأرضين أحمده وهو القوي المتين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد : 

عباد الله : وتتمّة لصلح الحديبية لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتابة المصالحة قال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا " قال :  فوالله ماقام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات فأشارت إليه أم سلمة رضي الله عنها بأن يقوم فينحر بنفسه ولا يكلم أحداً فقام ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه ، فلمّا رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، وفي رجوعه من مكة للمدينة أنزل الله سورة الفتح : ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ماتقدم من ذنبك وما تأخر ويتمَّ نعمته عليه ويهديك صراطاً مستقيماً ) . 

عباد الله : ذلك الشرط الجائر الذي اشترطه المشركون وهو : أن يردّ النبي صلى الله عليه وسلم من جاء من المسلمين إلى المشركين بموجب المعاهدة والشرط صارت عاقبته حُسنى ونصرٌ وفتح للمسلمين وذلك أن أبا بصير - وهو رجلٌ من قريش - أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسلماً هارباً من المشركين ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فردّه النبي صلى الله عليه وسلم بموجب الشرط وأعطاه لرجلين أرسلت بهما قريش لطلبه فلما خرجا به وبلغا ذا الحُليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير : " إني أرى سيفك هذا جيداً ، فقال المشرك : أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثمّ جربت ، فقال : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضرب به المشرك حتى برد ، وفرّ الآخر ، حتى بلغ المدينة فدخل المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأى هذا ذُعراً " فلما انتهى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قُتل والله صاحبي ، وإني لمقتول " فجاء أبو بصير ، فقال : " يانبي الله قد أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم " فقال صلى الله عليه وسلم : " ويلُ أمّه مسعّر حرب ، لو كان معه أحد " . فلمّا سمع ذلك عرف أنه سيردّه إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلّت من المشركين أبو جندل الذي سبق ذكره فلحق بأبي بصير ، فكان لايخرج من قريش رجلٌ أسلم إلا لحق بهم حتى اجتمعت لهم عصابة ، فكانوا لايسمعون بعِيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقاتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إليهم أنه من أتاه فهو آمن ، فسقط ذلك الشرط الجائر بطلب من العدو ، وحصل فيما بعد مقصَدٌ عظيم من الذات الإلهية وهو دخول مكة من دون حرب ولا سفك دماء وهذا الذي جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ينفذّ ويُمضي ماأُمر به من كتابة المعاهدة والصبر على مافيها حتى تنفذ حكمة الله ويتجلى في ذلك النصرُ والعاقبةُ الحسنة لأولياء الله وعباده ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضاء بعد ذلك في العام السابع من الهجرة هو وألفين من أصحابه رضي الله عنهم وعنا أجمعين . . وصلوا وسلموا على صاحب الحوض والشفاعة وشفيعِنا يوم تقوم الساعة  .. اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم ياأرحم الراحمين .

الأربعاء، 1 يونيو 2022

خطبة عن غزوة تبوك

الحمدلله الذي أعز دينه وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أحمده حمداً لامنتهى له كما حمده الحامدون وأصلي وأسلم على من بعثه الله للناس كافة وقد كانوا في غيهم يعمهون ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ماصلى عليه المصلون وذكره الذاكرون وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم ِيبعثون . . أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - ( واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون ) ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يُكفّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا ) . 
عباد الله : القراءة في السيرة تفتح بصر الإنسان وبصيرته على حياة من هو خيرٌ منه في القول والعمل والصدق والإخلاص والمجاهدة وإذا كانت السيرة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام كان ذلك له أبلغ الأثر على النفس والقلب ، ولعلنا أن نورد في هذه الخطبة عن عن بعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونتناول غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وهي غزوة تبوك التي وقعت في السنة التاسعة من الهجرة في شهر رجب ، والتي وقعت في شدة الحرّ ونضج الثمار ، حتى قال في ذلك المنافقون : " لاتنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشد حرّاً لو كانوا يفقهون " وقد يستغرب البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يبتدئ بالقتال في الأشهر الحرم ورجب منها ؟ والجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بأن الروم تجمع له عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه وتريد غزو المدينة فأراد أن يدفع شرّهم عنه وعن أهلها ، وليس كما يقول بعضهم بجواز البداءة بالقتال بالأشهر الحرم ، والأمر ماض ٍعلى حرمة البداءة بالقتال في الأشهر الحُرُم ، وبذلك أجاب ربنا جل وعلا في قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرم قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله . . . ) 
عباد الله : عند الحديث عن غزوة تبوك  ، نتحدث عن غزوة فيها ابتلاء للغني والفقير والمؤمن والمنافق والصديق والعدو ، يقول ابن اسحاق : " كانت في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد ، حين طابت الثمار ، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، وكان صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج من غزوة إلا ورّى بغيرها ، إلا ماكان منها فإنه جلّها للناس ، لبعد الشُّقة - أي المكان - وشدّة الزمان " اهــ وحث النبي صلى الله عليه وسلم أهل الغنى على النفقة فبذل أهل الغنى من زادهم وركابهم مابذلوا وحملوا ماحملوا من أناس لاركوب لهم ولا زاد وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وألف دينار عيناً ،  وجاء سبعة نفر - يسميهم أهل السيرة البكاؤون - يريدون أن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم فقال كما أخبر الله ( لاأجد ماأحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لايجدوا ماينفقون ) وكان مما قيل في غزوة تبوك أنه من قلّة الظهر الذي يُركب أن كان ثمانية عشر رجلاً يتعاقبون على بعير واحد وتخلّف خمسة نفر من الصحابة رضوان الله عليهم وهم أبو ذر الغفاري وأبو خيثمة السالمي وكعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع فأما الأول والثاني فلحقوا النبي صلى الله عليه وأصحابه وتخلّف ثلاثة وخلّف علياً على أهله عليه الصلاة والسلام ومحمد بن مسلمة على المدينة فلمزه المنافقون علياً رضي الله عنه وقالوا له : " أن محمداً ماخلّفك إلا استثقالاً لك وتخففاً منك ، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يخبره الخبره فقال : " كذبوا ، ولكني خلفتك لما تركت من ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أولا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي " فرضي ورجع ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشٍ من المسلمين قوامه ثلاثون ألف مقاتل ، وقيل : أربعون ألف مقاتل ولم يجتمع له مثل هذا العدد في غزوة غير تبوك ومرّ رسول الله في طريقه بالحجر - من ديار ثمود - فقال : " لاتدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لايصيبكم مثل ماأصابهم " ونهى عن الشرب من مائها ولا الوضوءُ منه ، وما كان من مائها فيوضع في علف الدواب . 
عباد الله : من الأحداث التي وقعت في غزوة تبوك ، والتي تُبين خطورة عصيان النبي صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك وضرره على المناكف والعاصي ماأورد مسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال : " انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستهب اليوم ريحٌ شديدة فلا يقُم أحدٌ منكم ، فمن كان له بعير فليشد عقاله ، فهبت ريحٌ شديدة ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء " أي أجا وسلمى 
يقول ابن اسحاق : " وأصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا الله ، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس وحملوا حاجتهم من الماء " . 
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين كان قُرب تبوك : " إنكم سـاتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي " فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشِّراك - أي شراك النعل - تبضّ بشيء من ماء ، قال فسأليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل مسستما من مائها شيئاً " قالا : نعم ، فسبّهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ماشاء الله أن يقول ، قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء ، قال وغسّل فيه رسول الله يديه ووجهه ، ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماءٍ منهمر ، فاستقى الناس ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " يوشك يامعاذ إن طالت بك حياة ، أن ترى ماههنا قد ملئ جناناً " . 
عباد الله : ملما نزل جيش النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك أقام بها حوالي عشرين ليلة يقصر الصلاة ويستعد للقاء الروم ، ولكن لمّا علمت الروم وحلفاؤهم برحف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب وتفرقوا في الشام ، وجاء رجلٌ اسمه يُحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية ، وأتاه اهل جباء وأهل أذرُح فأعطوه الجزية وكتب لهم كتاباً على مناطقهم وصالحه أهل ميناء على ربع ثمارها ، ثم إن رسول الله صلى الله الله عليه  وسلم بعث خالد بن الوليد إلى الأكيدر الكندي ملك دومة الجندل وقال لخالد : " إنك ستجده يصيد البقر " فأتاه خالد والجيش من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً ، فلما كان منه بمنظر العين خرجت بقرة تحك بقرونها باب قصره في دومة الجندل فخرج لاصطيادها فتلقاه خالد في خيله فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن النبي صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فأقرّ بإعطاء الجزية ، ثم إنه بعد ذلك أيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على أسيادهم من الرومان قد مضى وقتُه فانقلبوا عليهم لصالح المسلمين وصار شمال الجزيرة العربية داخل حدود دولة الإسلام وكفى الله المؤمنين القتال وحقق المسلمون مكاسب سياسية من جراء ذلك ، فاللهم انصر دينك وأعز أوليائك واخذل أعداء دينك ياذا الجلال والإكرام ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

============ الخطية الثانية ============
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن المؤمن مهما كان له من النصر والتمكين إلا أنه يُبتلى في هذه الدار - دار التنغيص والإبتلاء - فمهما صفت لك الحياة فيعقُبُ ذلك الصفاء الكدر وتلك حال الدنيا منذ خلقت البشريّة ومشت على ظهر البريّة وعندما تنظر لأحداث هذه الغزوة تجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لاقوا شدّة فيها وعناء وفي ذلك أنزل الله عز وجل قوله تعالى : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ماكاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوفٌ رحيم ) وسميت بساعة العسرة لأن حصل عسرٌ في الزاد والماء والنفقة والظهر يقول مجاهد رحمه الله : " ساعة العسرة " غزوة تبوك ، أصابهم جهدٌ شديد حتى إن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وأنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء ، ويروي ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في شأن ساعة العسرة فقال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلا منزلاً أصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه " 
وبسبب تلك الشدة كاد فريقٌ من جيش النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيغَ عن الغزو ويشك في دينه ويرتاب بعدما ناله تلك الشدة والعناء الذي لاقى . 
عباد الله : وقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم مع شدة العطش التي أصابته شدّة أخرى  حيث تآمر اثنا عشر رجلاً من المنافقين وقيل أربعة عشر رجلاً تآمروا على الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم وايقاعه من بغيره ومزاحمته عند العقبة ولكن الله عصم نبيه من شرّهم . 
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وخرج الرجال والأطفال والنساء يتلقونه وكان إذا قد من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، فلما رآه المنافقون قدموا إليه يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار المكذوبة فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله وبقي ثلاثة نفر من الصحابة وهم الثلاثة الذين خلفوا آثروا الصدق فحصل لهم من الإبتلاء مافيه كفارة لهم ورفعٌ لدرجاتهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لايكلمهم أحدٌ من الصحابة حتى مضت خمسون ليلة وفي آخر عشر منها أمروا ان يعتزلوا نساءهم ونزلت التوبة عليم من الله حيث يقول جل وعلا : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ختى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )  وفي هذه الغزوة من الدروس الشيءَ الكثير وفيها من العبر والمعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم مالايخفى وفيها من دروس الصبر على الشدة مايطول ذكره ، فنسأل الله أن يُبلغنا وإياكم درجة الصديقين والشهداء وأن يجعلنا من عباده الأتقياء ومن حزبه المقربين وأوليائه الصالحين ، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه  . .

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...