الأربعاء، 15 يونيو 2022

خطبة عن فتح مكة وماجرى فيها من أحداث

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : لمّا تتأملُ السيرة النبوية تجد أنه مرّ على الأمة يومٌ عظيم كان فصلاً بين دولة الإسلام ودولة الشرك وأتباعها وهو يومٌ مشهود فتح الله به على جند الإسلام وأهله وأعزهم الله به بعد أن لم تكن هيمنتهم تامّة وسيطرتهم عامّة على بلاد الحجاز ، يومٌ من أيام النصر والتمكين لمن طُرد عن بلده وأوذي عليه الصلاة والسلام هو ومن كان معه من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو يومٌ مفصلي وفارق بين منازل أهل الإيمان من الرعيل الأول فمن أسلم قبله وأنفق قبله وجاهد قبله ليس مساوياً لمن أسلم بعده وأنفق بعده وقاتل بعده فهو يوم فتح مكة الأعظم ( لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) وقعت أحداثه في السنة الثامنة من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان . 
عباد الله : كان سبب فتح مكة هو نقض صلح وخيانة وغدر فقد كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش فعل فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بكر بن عبدمناة من كنانة في عقد قريش ، وكان لخزاعة بئرٌ ماء يُقال له " الوتير " قرب مكة ، فعدت بكرٌ على خزاعة ليلاً وهم بمائهم فقتلوا منهم ، وكانت قريش قد أعانتهم بالسلاح وقاتل معهم من قريش أناسٌ مستخفين بجنح الظلام ، فخرج من خزاعة عمرو بن سالم إلى المدينة فدخل المسجد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني أصحابه فأعلمه بما صنعت بكر بن عبد مناة حليفة قريش وأنشد للنبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : 
ياربِّ إني ناشدٌ محمداً  * حلف أبينا وأبيه الأتلدا 
قد كنتموا وُلْداً وكنا والدا * ثُمّت أسلمنا ولم ننزع يدا 
فانصر هداك الله نصراً أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا 
فيهم رسول الله قد تجرّدا * أبيض مثل البدر يسمو صُعُدا 
إن سيم خسفاً وجهه تربدا * في فيلقٍ كالبحر يجري مزبدا 
إن قريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكـــدا
وجعلوا لي في كَددَاءٍ رُصّدا * وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عـــددا * هم بيّتونا بالوتير هُجّــــدا 
                 وقتلونا ركّعاً وسجّدا 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُصرت ياعمرو بن سالم " وخرج بُديل بن ورقاء في نفرٍ من خزاعة فقدموا المدينة وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بمن أصيب منهم وبمظاهرة قريش لبني بكر ، وكان أبو سفيان قادماً في الطريق يريد أن يستمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هاله ماصنعت قريش هو وزمرة منهم  ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العَقد ويزيد في المدة بعثته قريش ، وقد رهِبوا للذي صنعوا " فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في المصالحة والإمهال فلم يردّ عليه ، فذهب إلى أبي بكر يريد من أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشفعَ في ذلك فأبى ، فذهب لعمر رضي الله عنه يستشفعه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عمر : أنا أشفعُ لكم ؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به واستشفع بعلي رضي الله عنه فقال له علي : لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر مانستطيع أن نكلمه فيه " فرجع أبو سفيان لمكة خائباً خاسرا . 
ثم أمر النبيُ صلى الله عليه وسلم بالعُدّة للقتال والجَهاز له وقال : " اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبْغتُها في بلادها " .
ثم إن حاطب بن أبي بلتعة وكان ممن حضر بدراً أرسل لقريش كتابا مع مولاة لبني عبدالمطلب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحيُ يخبره بذلك فأرسل إليها علياً رضي الله عنه فألفاها بروضة خاخ فطلب الكتاب وجاء به للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب ماحملك على ماصنعت فقال : يارسول الله يدٌ عند قريش أحمي بها قرابتي وأهلي فقال عمر رضي الله عنه لقد نافق دعني أضرب عنقه يارسول الله فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " ومايدريك ياعمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم" فذرفت عيناه وقال : " الله ورسوله أعلم" . 
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش وعمّى الله الأخبار عن قريش ولكنهم على وجل ، وخرج العباس بأهله وعياله مسلماً مهاجراً حتى وافى النبيَ صلى الله عليه وسلم بالجحفة ثم ارتحل النبيُ صلى الله عليه وسلم حتى نزل  بمرّ الظهران ( يُقال له اليوم وادي فاطمة ) وكان حين العِشاء فأمر من معه أن يوقدوا نيراناً فأوقد عشرة آلاف نار وهي خدعة وتخويف ، وفي هذه الأثناء كان خارجاً أبو سفيان وبُديل بن ورقاء فراعهم هذه النيران ورغبوا أن يستأمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أقبلوا ورآهم عمر همّ أن يوقع بأبي سُفيان ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وأجاره العباس وقال النبي للعباس : " إذهب به إلى رحلك فإذا اصبحت فائتني به " ففعل فلما كان من الغد أتاه به وعرض عليه الإسلام فتلكأ ، فقال العباس : ويحك ، أسلم قبل أن يضرب عُنقك ، قال : فشهد شهادة الحق فأسلم ، فقال العباس : إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، قال : " نعم ، من دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن " فكان ذلك ثباتاً لأبي سفيان على دين الحق ، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بجيشٍ عرمر حتى دخل مكة من أعلاها وأمر خالد بن الوليد فدخلها من أسفلها ، وقال : " إن عرض لكم أحدٌ من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا ، ووقع قتالٌ عند الخندمة وهو جبل  يقع شرق مكة حيث أنه تجمع سفهاء من قريش مع عكرمة بن أبي جهل وسُهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وتشابكوا مع جند المسلمين وفرّ أكثرهم ولم يُذكر أنه قُتل أحد ولكن تناوش وجراحات ، ودعا رسول الله الأنصار ، وقال لهم : " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم - ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى - احصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا " وبعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على جنبات مكة ، ورُكزت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون ، ثم نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه وحوله حتى دخل المسجد الحرام فأقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت ولم يكن يومئذٍ محرما ، فاقتصر على الطواف ، وقام على أصنام حول الكعبة وفوقها مايقارب ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بقوس في يده ويقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ( جاء الحق ومايُبدئ الباطل وما يُعيد ) ثم أمر بباب الكعبة ففتح ، فدخل معه أسامة بن زيد وبلال فأمر بالباب فأغلق ورأى صورة ابراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال : " أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " ثم أمر بالصور فمحيت ثم استقبل الجدار الذي يقابل الباب وصلى وكبر في نواحي الكعبة ثم أخذ بعضادتي باب الكعبة وقريش والناس تحته وقال : " لاإله إلا الله وحده لاشريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو مال أو دمٍ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتل الخطأ شبه العمد ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها ، يامعشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب " ثم تلا هذه الآية : 
( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ....) ثم قال : " يامعشر قريش ماترون أني فاعلٌ بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخٌ كريم وابن أخ ٍكريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فعفى عنهم عليه الصلاة والسلام بعد كل ماناله من أذيتهم فأي نفسٍ كريمة هذه ؟ ! ذلك مقام لايناله ولا يقوى عليه إلا نبي ٌ كريم ، فاللهم أحينا على سنته وتوفنا على ملته واحشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة لانظمأ بعدها أبدا ، أقول ماتسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم  . 
============== الخطبة الثانية ===============
الحمدلله الذي منّ على عباده بالخيرات أحمده وهو أهل الحمد ووافر التحايا والصلوات ونشكره على فضله وعاطاياه السابغات والصلاة والسلام على المبعوث بالهدى والبينات نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان أزكى الصلوات من رب البريات أما بعد : 
لما استقر الفتح بمكة أمّن النبي الناسَ كلّهم إلا من كان له عدوّا لدوداً لله ورسوله وكانوا حينها تسعة نفر فإنه أمر بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وهم عبدالله بن أبي سرْح وعكرمة بن أبي جهل وعبدالعزى بن خطل والحارث بن نُفيل ومَقيس بن صُبابة وهبّار بن الأسود وقينتان لابن خطل وسارة مولاة لبني عبدالمطلب ، فأما ابن أبي السرح فهرب واستجار بعثمان فأمسك عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عكرمة فاستأمنت له امرأته بعد أن هرب وعادت به فأسلم وحسُن إسلامه ، وأما ابن خطل ومَقيس والحارث وإحدى القينتين فقُتلوا ، وأما هبّار ففر ثم جاء فأسلم وحسُن إسلامه واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسارة ولإحدى القينتين فأسلمتا ، ولمّا كان من الغد من يوم الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً ثم حمد الله وأثنى عليه وقال : " أيها الناس ، إن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فلا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك ، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار " 
ثم بعد ذلك بعث عتّاب بن أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم وحدودها وبعث صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي حول مكة فكُسّرت كلها ومنها اللات والعزى ومناة ، ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام بمكة : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره " . 
عباد الله : أعز الله دينه ونصر أولياءه بفتح مكة وفرح المسلمون بالنصر والتمكين ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُناصر قضايا المسلمين في كل مكان تنتهك فيه حُرمتهم ، ونحن اليوم نُطالب بنصر قضايا المسلمين في كل مكان في الشام واليمن والعراق والهند بأي نوعٍ من أنواع النصر ولو بكلمة ، فياأخي المبارك إذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام قال : " مامن مسلم يخذلُ مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يُحب فيه نصرته  " أخرجه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في التاريخ الكبير فما حالنا وحالكم فإننا نخشى من عقوبات عامة تنالنا جميعاً فاللهم اصرف عنا سوء العاقبة والمصير واجبر - اللهم - ضعفنا والتقصير ياقوي ياقدير 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...