الأربعاء، 1 يونيو 2022

خطبة عن غزوة تبوك

الحمدلله الذي أعز دينه وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أحمده حمداً لامنتهى له كما حمده الحامدون وأصلي وأسلم على من بعثه الله للناس كافة وقد كانوا في غيهم يعمهون ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ماصلى عليه المصلون وذكره الذاكرون وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم ِيبعثون . . أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - ( واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون ) ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يُكفّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا ) . 
عباد الله : القراءة في السيرة تفتح بصر الإنسان وبصيرته على حياة من هو خيرٌ منه في القول والعمل والصدق والإخلاص والمجاهدة وإذا كانت السيرة سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام كان ذلك له أبلغ الأثر على النفس والقلب ، ولعلنا أن نورد في هذه الخطبة عن عن بعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونتناول غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وهي غزوة تبوك التي وقعت في السنة التاسعة من الهجرة في شهر رجب ، والتي وقعت في شدة الحرّ ونضج الثمار ، حتى قال في ذلك المنافقون : " لاتنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشد حرّاً لو كانوا يفقهون " وقد يستغرب البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يبتدئ بالقتال في الأشهر الحرم ورجب منها ؟ والجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بأن الروم تجمع له عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه وتريد غزو المدينة فأراد أن يدفع شرّهم عنه وعن أهلها ، وليس كما يقول بعضهم بجواز البداءة بالقتال بالأشهر الحرم ، والأمر ماض ٍعلى حرمة البداءة بالقتال في الأشهر الحُرُم ، وبذلك أجاب ربنا جل وعلا في قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرم قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله . . . ) 
عباد الله : عند الحديث عن غزوة تبوك  ، نتحدث عن غزوة فيها ابتلاء للغني والفقير والمؤمن والمنافق والصديق والعدو ، يقول ابن اسحاق : " كانت في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد ، حين طابت الثمار ، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، وكان صلى الله عليه وسلم قلّما يخرج من غزوة إلا ورّى بغيرها ، إلا ماكان منها فإنه جلّها للناس ، لبعد الشُّقة - أي المكان - وشدّة الزمان " اهــ وحث النبي صلى الله عليه وسلم أهل الغنى على النفقة فبذل أهل الغنى من زادهم وركابهم مابذلوا وحملوا ماحملوا من أناس لاركوب لهم ولا زاد وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وألف دينار عيناً ،  وجاء سبعة نفر - يسميهم أهل السيرة البكاؤون - يريدون أن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم فقال كما أخبر الله ( لاأجد ماأحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لايجدوا ماينفقون ) وكان مما قيل في غزوة تبوك أنه من قلّة الظهر الذي يُركب أن كان ثمانية عشر رجلاً يتعاقبون على بعير واحد وتخلّف خمسة نفر من الصحابة رضوان الله عليهم وهم أبو ذر الغفاري وأبو خيثمة السالمي وكعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع فأما الأول والثاني فلحقوا النبي صلى الله عليه وأصحابه وتخلّف ثلاثة وخلّف علياً على أهله عليه الصلاة والسلام ومحمد بن مسلمة على المدينة فلمزه المنافقون علياً رضي الله عنه وقالوا له : " أن محمداً ماخلّفك إلا استثقالاً لك وتخففاً منك ، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يخبره الخبره فقال : " كذبوا ، ولكني خلفتك لما تركت من ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أولا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي " فرضي ورجع ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشٍ من المسلمين قوامه ثلاثون ألف مقاتل ، وقيل : أربعون ألف مقاتل ولم يجتمع له مثل هذا العدد في غزوة غير تبوك ومرّ رسول الله في طريقه بالحجر - من ديار ثمود - فقال : " لاتدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لايصيبكم مثل ماأصابهم " ونهى عن الشرب من مائها ولا الوضوءُ منه ، وما كان من مائها فيوضع في علف الدواب . 
عباد الله : من الأحداث التي وقعت في غزوة تبوك ، والتي تُبين خطورة عصيان النبي صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك وضرره على المناكف والعاصي ماأورد مسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال : " انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستهب اليوم ريحٌ شديدة فلا يقُم أحدٌ منكم ، فمن كان له بعير فليشد عقاله ، فهبت ريحٌ شديدة ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء " أي أجا وسلمى 
يقول ابن اسحاق : " وأصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا الله ، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس وحملوا حاجتهم من الماء " . 
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين كان قُرب تبوك : " إنكم سـاتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي " فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشِّراك - أي شراك النعل - تبضّ بشيء من ماء ، قال فسأليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل مسستما من مائها شيئاً " قالا : نعم ، فسبّهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ماشاء الله أن يقول ، قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء ، قال وغسّل فيه رسول الله يديه ووجهه ، ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماءٍ منهمر ، فاستقى الناس ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " يوشك يامعاذ إن طالت بك حياة ، أن ترى ماههنا قد ملئ جناناً " . 
عباد الله : ملما نزل جيش النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك أقام بها حوالي عشرين ليلة يقصر الصلاة ويستعد للقاء الروم ، ولكن لمّا علمت الروم وحلفاؤهم برحف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب وتفرقوا في الشام ، وجاء رجلٌ اسمه يُحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية ، وأتاه اهل جباء وأهل أذرُح فأعطوه الجزية وكتب لهم كتاباً على مناطقهم وصالحه أهل ميناء على ربع ثمارها ، ثم إن رسول الله صلى الله الله عليه  وسلم بعث خالد بن الوليد إلى الأكيدر الكندي ملك دومة الجندل وقال لخالد : " إنك ستجده يصيد البقر " فأتاه خالد والجيش من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً ، فلما كان منه بمنظر العين خرجت بقرة تحك بقرونها باب قصره في دومة الجندل فخرج لاصطيادها فتلقاه خالد في خيله فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن النبي صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فأقرّ بإعطاء الجزية ، ثم إنه بعد ذلك أيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على أسيادهم من الرومان قد مضى وقتُه فانقلبوا عليهم لصالح المسلمين وصار شمال الجزيرة العربية داخل حدود دولة الإسلام وكفى الله المؤمنين القتال وحقق المسلمون مكاسب سياسية من جراء ذلك ، فاللهم انصر دينك وأعز أوليائك واخذل أعداء دينك ياذا الجلال والإكرام ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

============ الخطية الثانية ============
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن المؤمن مهما كان له من النصر والتمكين إلا أنه يُبتلى في هذه الدار - دار التنغيص والإبتلاء - فمهما صفت لك الحياة فيعقُبُ ذلك الصفاء الكدر وتلك حال الدنيا منذ خلقت البشريّة ومشت على ظهر البريّة وعندما تنظر لأحداث هذه الغزوة تجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لاقوا شدّة فيها وعناء وفي ذلك أنزل الله عز وجل قوله تعالى : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ماكاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوفٌ رحيم ) وسميت بساعة العسرة لأن حصل عسرٌ في الزاد والماء والنفقة والظهر يقول مجاهد رحمه الله : " ساعة العسرة " غزوة تبوك ، أصابهم جهدٌ شديد حتى إن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وأنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء ، ويروي ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في شأن ساعة العسرة فقال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلا منزلاً أصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه " 
وبسبب تلك الشدة كاد فريقٌ من جيش النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيغَ عن الغزو ويشك في دينه ويرتاب بعدما ناله تلك الشدة والعناء الذي لاقى . 
عباد الله : وقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم مع شدة العطش التي أصابته شدّة أخرى  حيث تآمر اثنا عشر رجلاً من المنافقين وقيل أربعة عشر رجلاً تآمروا على الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم وايقاعه من بغيره ومزاحمته عند العقبة ولكن الله عصم نبيه من شرّهم . 
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وخرج الرجال والأطفال والنساء يتلقونه وكان إذا قد من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، فلما رآه المنافقون قدموا إليه يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار المكذوبة فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله وبقي ثلاثة نفر من الصحابة وهم الثلاثة الذين خلفوا آثروا الصدق فحصل لهم من الإبتلاء مافيه كفارة لهم ورفعٌ لدرجاتهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لايكلمهم أحدٌ من الصحابة حتى مضت خمسون ليلة وفي آخر عشر منها أمروا ان يعتزلوا نساءهم ونزلت التوبة عليم من الله حيث يقول جل وعلا : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ختى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )  وفي هذه الغزوة من الدروس الشيءَ الكثير وفيها من العبر والمعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم مالايخفى وفيها من دروس الصبر على الشدة مايطول ذكره ، فنسأل الله أن يُبلغنا وإياكم درجة الصديقين والشهداء وأن يجعلنا من عباده الأتقياء ومن حزبه المقربين وأوليائه الصالحين ، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه  . .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...