السبت، 27 أغسطس 2022

خطبة ثانية عن بداية العام الدراسي

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : إن من أهم مايسعى إليه العبد في حياته أن يكسَب علماً ينير دربه وبصيرته ، فكلٌ منّا سائرٌ إلى ربه لامحالة
( ياأيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فمُلاقيه * فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يُحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً * ويصلى سعيرا ) فهذه هي الحقيقة المؤكدة التي يجب أن يعمل على ضوءها المسلم وأن ينتقي من العلم ماينفعه ويبتعد عن مايضره ، وذلك أن العلم الذي يكسبُه العبد إما أن يكون علماً ينفع العبد في عبادته ومعاملاته ويقربه من إلهه ومولاه فهذا يجب أن يلزمُه العبد ، ويسعى كل السعي لتحصيله ، ولو بذل في سبيلا ذلك المال ، وإما أن يكون ذلك العلم لافائدة منه بل هو مضيعة للوقت فهذا يجب أن يبتعد عنه المسلم كل البعد حسب استطاعته ، وإما أن يكون ذلك العلم في مرحلة وسط أو يكون سبيلاً لتعلم العلم النافع وتبليغه فهذه لاحرج للعبد في تعلمه مالم يفض تعلمه إلى محرّم كمن يتعلمّ علم الفلك بما فيه الأبراج والنجوم وربطها بالحوادث الأرضية وأما من يتعلمها لمعرفة الوقت ودخول الفصول فلا حرج .

عباد الله : هانحن في بداية عام دراسي جديد طويلٍ نسبياً ، يحتاج لوقفة منا جميعاً ، سواءٌ كنا مربين أم معلمين أم أولياء أمور أم مسؤولين كلٌ حسب مايستطيع ، نريد أن نبني جيلا رائداً في تعلمه وتعليمه وفي إتقانه وسلوكه....
 نحن اليوم - ياعباد الله - بحاجة لنشغل الأبناء بما ينفعهم ، فهناك ملهيات وصوارف كثيرة تُفسد القلب والنشء وتزرع الشهوات والكسل والخمول، فياعبدالله إلى متى تنشغل عن أولادك وبنيك وبناتك ولا تراهم إلا عند حضور طعام أو آخر الليل أو عند الصباح، ذهبت أيام وضيعتها في لهو وغفلة ولعِب فمتى تلتفت إلتفاتة راعٍ ومسؤول وناصح فتؤدي 
ما أوجب الله عليك من نصح أبنائك ورعايتهم، أم تريد أن تكون ممن قال الله فيه ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذابٍ مُقيم ) 

عباد الله : إن مجتمعنا بحاجة إلى تعليم العلم الشرعي أكثر من غيره بعد أن قُلّصت عدد حصصه ودروسه فالفئة العمرية التي من سن السابعة إلى سن الخامسة عشر من العمر يحتاجون منا لزيادة جهدٍ وعمل ورصد ساعات منك أخي الأب وبتوجيه منك للأم لتعلم أبناءك وبناتك أمور الدين وثوابت الشريعة التي يجب عليك أن تهتم بها وتعلّمَها ، فما أضرُ على الناشئ من الجهل وما أضر على الناشئ من الإهمال من نفسه أو من والديه والذي يجره للشرور والفتن فإن العلم حصنٌ مكين وسورٌ حصين من أسباب الردى والهلاك . . فيا أخي الطالب وياأخي صاحب المسؤولية أياً كان دورك ماذا ننتظر من هذا التواكل الذي نعانيه فالتواكل في كل حال مذموم والله أمر بالتوكل وكره التواكل فالتوكل ممدوح والتواكل في كل حال مذموم ، وما ضيع العبد كثيراً من فرص النجاح إلا بسبب العجز والتواكل على الغير ، فمارس عملية التعليم بنفسك مع أفراد الأسرة فإن ذلك خيرٌ لك وأكثر ثواباً واعظم أجراً ولا تيأس أو تتواكل على غيرك بلا سبب ولا مبرر ، فأنت تهيئ أبناءك وبناتك لتنتفع بهم في حياتك وبعد مماتك وليس أحدٌ مشفق عليهم كإشفاقك وحريصٌ عليهم كحرصك فلا تضيّعهم ، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته .

وإذا كُنت موعوداً بجنة عرضُها السماوات والأرض على حُسن تربيتك وتعليمك لأبناءك وبناتك وتعمل لآخرتك فتذكر هذه النعمة واحمد الله عليها ، فغيرك ممن كان على الكفر ينشء ولده وبنته على الكفر ويسوق الله له بعض برّ أبناءه به حسب برّه بأبيه وأمّه ثم يُرمى بعد موته بالهاوية ويصلى ناراً حامية ، وكأنه ماظفر ببر ابن ولا بنت ولا عاش في الدنيا منعّماً وهذا شؤم الكفر والشرك على صاحبه ، فابشر ياعبدالله بكل خير يامن غرست غرساً طيباً في أفراد أسرتك كافّة فسيوفيك ربك الجزاء الأحسن ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون ) جعلنا الله وإياكم منهم وأعاننا على حسن التربية والتعليم والتأديب بالتي هي أحسن ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

============ الخطبة الثانية ==============

الحمدلله الذي فضل أهل العلم على غيرهم من الخلق ، وأنار سبيل المؤمنين بالقول المبين والحق ، وهو الحق المبين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وإماماً للمتقين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أفضل الصلوات والتسليم من رب العالمين أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - 
عباد الله : لما كان الخير المتعدي خيرٌ من الخير اللازم كان الذي يُعلّم خيرٌ من الذي لايُعلّم ولا ينشر العلم ، وكان الذي ينفع الناس خيرٌ من الذي لاينفعهم ، وكان العلماء وطلاب العلم الشرعي خاصّة خيرٌ من غيرهم لأنهم أعلم والغالب بهم أنهم يبذلون العلم وينشرون الوعي في هذه الأمة ، فهذا هو النهج الذي ينبغي أن يسلكه أفراد الأمة كافّة فوالله مايُصلح هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها ، وما صلُح وفاز الرعيل الأول من هذه الأمة إلا بحيازتهم قصب السبق في العلم ونشره وحفظهم وإتقانهم وإمامتهم في الخير ونيّتهم التي تحدوهم لمزيد من البذل والعطاء ورفع الجهل عن هذه الأمة وفي حديث مال إلى تحسينه جمعٌ من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا ملعونة ، ملعون مافيها إلا ماكان لله عز وجل " وفي الحديث الآخر الذي حسّنه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن الدنيا ملعونة ملعون مافيها إلا ذكرُ الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلّماً " فكيف يشتغل العبد بشيء لامنفعة فيه ولهو لاطائل من ورائه عن عمل الآخرة ورصد الأجور والثواب له يوم الدين ، ويقول الحافظ ابن رجب رحمنا الله وإياه تعليقاً على هذا الحديث : " فالدنيا وكل مافيها : ملعونة ، أي مُبعدة عن الله لأنها تُشغل عنه ، إلا العلم النافع الدال على الله وعلى معرفته ، وطلب قُربه ورضاه ، وذكر الله وما والاه مما يُقرّب من الله ، فهذا هو المقصود من الدنيا ، فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويُطيعوه ، ولازم ذلك دوام ذكره ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه : " تقوى الله حقّ تقواه أن يُذكر فلا يُنسى " وإنما شرع الله إقام الصلاة لذكره ، وكذلك الحج والطواف ، وأفضل أهل العبادات أكثرهم ذكراً لله فيها ، فهذا كلّه ليس من الدنيا المذمومة ، وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها ، كما قال تعالى : " وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون " ا.هـ كلامه . 
فاقطع على نفسك عهداً أن تخصص ساعتين أو ساعة من وقتك تُعلّمَ فيه أفراد أسرتك ولا تفرّط في ذلك بقدر استطاعتك ، فالجهل بدأ يرتع في مجتمعنا ، ومن تُعلمهم اليوم فسيسودون غداً ، وإن سادوا على جهل فلا خير في أمة ساد فيها جُهّالها وتصدّر سفهاءها وشِرارها 
لايصلح الناس فوضى لاسُراة لهم  * ولا سُراة إذا جهالهم سادوا 
تُلفى الأمور بأهل الرشد قد صلُحت * فإن تولّوا فبالأشرار تنقادُ 
اللهم أصلح على أيدينا وارفع عنا الجهل وعن أولادِنا وأهلِينا وعن المسلمين كافّة ياسميع الدعاء ياواسع العطاء ، ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . 


الخميس، 18 أغسطس 2022

خطبة عن أهل الذمة والمعاهدين

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : لما فُتحت كثير من البلدان في عصر النبوّة وفي القرون الأولى المفضّلة كان الناس يختلطون ببعضهم البعض فكان من تلك البلدان من دخل في دين الإسلام اختياراً وكان منهم من دخل في دين الإسلام نفاقاً وكُرهاً هرباً من الجزية وكان منهم من لم يدخل في دين الإسلام ورضي بالجزية من يهود ونصارى ومجوس ولما ظهرت الحدود في البلدان وأُقرّت كان من الضروري فهم أحكام أهل الذمة وهم : كل مُعاهد كانت بين ولي أمر المسلمين وبين ولي أمرهم أو من ينوب عنه ذمة وعهد على أن لايمسهم أحد بأذى في بلادنا ولا يمس منّا أحدٌ في بلادهم أو كان مستأمناً أمّنه ولي الأمر وسمح له بدخول بلاد المسلمين وأن له وللمعاهد ما للمسلمين من عصمة الدم والمال والعرض وعليه ماعليهم فلو جنى أُخذ بجنايته أياً كانت جنايته ويُقاد بحسبها ، والشرع المطهر من الوحيين الكتاب والسنة أمر بالوفاء بالعهود حيث قال جلّ وعلا : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها . .) ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ) وفي الحديث الآخر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : " أخبرني أبو سفيان أن هرقل - ملك الروم - قال له : " سألتك ماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " قال : " وهذه صفة نبي " أخرجه الإمام أحمد في مسنده . 
عباد الله : حذّر الله ورسوله من استباحة دماء المعاهدين والمستأمنين ففي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مُعاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً " أخرجه البخاري وما حرّم الله ذلك إلا لأنه يفضي إلى مفاسد كثيرة من ظهور الفوضى واستباحة الدماء وجرّ الشرور والحروب بين دول إسلامية ودول أخرى بسبب نقض العهد الذي أبرمه ولي الأمر مع أي دولة فهذا المُعتدي حكمه حكم الخوارج الذين لايقرون بعهد ولا بيعة ولا ذمة ولذا في الحديث الصحيح حديث قيس بن عبّاد رحمه الله تعالى أنه قال : " انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فقلنا : هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده للناس ، قال : " لا ، إلا مافي كتابي هذا " فأخرج كتاباً من قراب سيفه ، فإذا فيه : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يدٌ على من سواهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ألا لايُقتل مؤمنٌ بكافر ولا ذو عهدٍ في عهده ، من أحدث حدثاً فعلى نفسه ، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " أخرجه أبوداود . 
والشاهد في هذا النص : " يسعى بذمتهم أدناهم " فلو أن صغيراً أو كبيراً أو امرأة أمّن رجلاً أو من دونه من الناس من الكفار فلا يجوز لأحد أن يمسه أو يتعرضه بسوء وهذا من عدل الإسلام وكماله وأخذ ورفعه لمقام الجميع من المسلمين . 
عباد الله : إن من يخون ويغدر أو يعتدي على حرمات الله تعالى فإنه أبعد الناس عن التقوى ولا يصلح أن يُولى أو يتولى أمراً من أمور المسلمين فإن من خان الله في هذه المحارم سيخون في حقوق العباد ويستولي على ماليس له من مال عام أو خاص وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : ماخطبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال : 
" لا إيمان لمن لاأمانة له ولا دين لمن لاعهد له " وهو في مسند أحمد وفي صحيح ابن حبان . 
فانظر كيف جعل أداء الأمانة مرتبطاً بوجود الإيمان ونفى الدين عن من لايفي بالعهود والمواثيق ، فلنتق الله تعالى ونستمسك بهاتين الخصلتين التي هما رأسٌ في إيمان العبد ودينه ومن أخلّ بهما فقد أساء لدين لنفسه أولاً وللمجتمع الذي يعيش فيه ثانياً ولدين الإسلام ثالثاً فكم شُوّهت صورة الإسلام واتُهم بالعنف والإرهاب بسبب انتهاكات من قِبل أفرادٍ ممن ينتسبون لهذه الأمة ، مع أن أحق من يوصف بالعنف والإرهاب والإجرام عامّة هم أعداء هذا الدين من اليهود ومردة النصارى وغيرهم ممن ينقضون العهود والمواثيق ويستبيحون دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل فحسبنا الله ونعم الوكيل وهو حسب كل مؤمن وكافيه ، أعز الله دينه ونصر أولياءه والمسلمين كافّة إنه قوي عزيز ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود . 
============== الخطبة الثانية =============== 

الحمدلله هدى من طلب الرشد والهدى ، وأزاغ عن صراطه من ضلّ وأعرض واعتدى ، والصلاة والسلام على النبي الكريم الذي جاهد العدا وأنار سبيل من اقتدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والفداء ومن على طريقهم اهتدى أما بعد : 
يقول ربنا جلا وعلا في محكم التنزيل : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين ) فالله أمر في هذه الآية بالدخول في " السِّلم "  كافّة ، والسِّلم الذي هو الإسلام أصوله وفروعه كما فسره المفسرون ، أمر الله بالدخول فيه وبحرمة الإنتقاء من الإسلام مايوافق الهوى فيُعمل به ومالا يعمل به ، وقد يظن البعض أن ذلك المقصود هو النداء بالمسالمة في الحرب ، وهذا خلاف المشهور بين المفسرين وحرّم الله أيضاً اتباع خطوات الشيطان ، فاتباع خطوات الشيطان يُضل العبد عن الصراط المستقيم ويُسقطه في الكبائر والموبقات ومن خطوات الشيطان صحبة رفقاء السوء الذين يتجرؤون على حرمات الله ، ومن خطوات الشيطان تأويل النصوص الشرعية على الهوى ومشتهيات النفس بغير علم ولاهدى ، ومن خطوات الشيطان اتهام المُخالف ووصفه بأقبح الأوصاف من غير دليل ولابينة وغير ذلك . 
عباد الله : لن يكون العبد من خير عباد الله حتى يكون قدوة في أموره كلّها متصفاً بكريم الشمائل والأخلاق داعياً إلى الله بأخلاقه وبكل وسيلة ممكنة مشروعة فيستثمر وجود المعاهد والمستأمن في بلدنا من عمّال وسائحين فيدعوهم لدين الله ويُبين لهم محاسن هذا الدين ولا يستحي أو يخجل من هذا الأمر ففرص الدعوة وهداية الناس لدين الله القويم مازالت سانحة ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النَّعم التي كانت أنفس أموال العرب في ذلك الزمان فنسأل الله أن العلي القدير أن نكون دعاة هدى ومشكاة هداية ومشعلاً دالاً لصراط الله المستقيم وأن نكون هداةً مهتدين مهديين هادين لخير سبيل ببصيرة ويقين لاضالين ولا مضلين ياذا الجلال والإكرام . . 

الأحد، 7 أغسطس 2022

خطبة عن قصة قارون والفتنة بالمال

 الحمدلله العلي الحكيم ، القوي العظيم ، الذي خلق للبشر مافي الأرض جميعاً وهو السميع العليم ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان أفضل الصلوات والتسليم أما بعد : 

فاتقوا الله -عباد الله - واتخذوا كل وسيلة تقربكم من الله ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تُفلحون ) ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . 

عباد الله : المال نعمة من الله ، من استعمله في طاعة الله وأدى ماافترض الله عليه كان نعمة لذلك العبد وخير له ، وزاده الله من فضله ووسع عليه في رزقه ، وكما ورد في الحديث : " مانقص مالٌ من صدقة ، بل تزده بل تزده " ويؤتي سبحانه من ينفق الضعف في الدنيا ، وأضعافاً في الآخرة والله يضاعف لمن يشاء ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ) والذي يتصدق بما هو فوق الزكاة الواجبة فهو مبشّرٌ بالمضاعفة الكثيرة والنعيم والخير كما قال الله تعالى :  ( من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثير والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) . 

عباد الله : إن هذا المال فتنةٌ وامتحانٌ لكثير من خلق الله الذين لايؤدون حق الله فيه ، بل سخروا هذا المال في شهواتهم ولخدمة مصالحهم التي بعضها يهدم الدين والأخلاق في مجتمعنا ويُدّمر القيم والمبادئ لمجرد أن ذلك يوافق مافي نفوسهم من الشرّ والباطل ، وقد ضرب الله في كتابه المجيد مثالاً لمن كان المالَ له فتنة وجعله مثلاً للعالمين وهو قارون الذي كان من قوم موسى وقد ذكر أكثر أهل العلم كما أورد ذلك الطبري في تفسيره أن قارون كان ابن عم موسى لأبيه وأمه وهو قول ابن جريج وأنه بغى وتكبر ورزقه الله مالاً عظيماً كما قال الله تعالى : ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة ) أي يستثقل حمل مفاتيح الكنوز الجماعة من الرجال الأشداء الأقوياء أوصلهم بعض المفسرين إلى أربعين رجلاً كابن عباس والضحاك وغيرهم وقال بعض المفسرين أن تلك المفاتيح تُحمل على ستين بغلاً من كثرتها ، هذا شأن المفاتيح فما بالك بالكنوز نفسها والجواهر الثمينة التي أوتي  . 

لقد كان قارون جاحداً لنعمة الله تعالى ، مانعاً لحق الله في ذلك المال ، ولقد كان يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله مع ماجمع في قلبه من الكبر والغطرسة ، فتمادى به الحال وكفر بنعمة الله تعالى وأعرض عن الله وعن نبي الله موسى عليه السلام الذي أمره بالحق وباتباع صراط الله المستقيم ، ونصحه أهل الصلاح والخير من قومه بعدم الفرح وهو فرح الطغيان والأشر وأن يتخِذ هذا المال في العمل للدار الآخرة وأمروه بالإحسان وعدم طلب الفساد في الأرض فما كان منه إلا أن جحد فضلَ الله تعالى ونسب ذلك المال لعلمه وفضله فقال : ( إنما أوتيتُه على علمٍ عندي ) وهكذا كان كثيرٌ من الناس ممن أضل الله قلوبهم لاينسبون الفضل لله أولاً ثم لأنفسهم  حينما تُفتح عليهم الدنيا بل ينسبونه لجهدهم وعلمهم وسعيهم والله يُمهلهم ويحلُمُ عليهم ، وقد بين الله هذا في كتابه : أن أناساً من هذه الأمة سيصيبهم مثل ماأصاب قارون كما قال الله تعالى : ( فإذا مس الإنسان ضرٌ دعانا ثم إذا خوّلنا نعمة منّا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لايعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ماكسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيُصيبهم سيئات ماكسبوا وما هم بمعجزين )  فلما أعرض قارون كان جرمُه ليس بعيداً عن جرم فرعون وهامان ولذا ضمّه الله معَهُما في معرض الآيات فقال جلّ وعلا : ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) . 

عباد الله : خرج قارون ذات مرّة متباهياً متعالياً بزينته متكبراً ، فكان الناس وهم ينظرون إليه على فريقين فريقٌ يتمنى مثله ويريد أن يتباهى مثل ماكان يتباهى قارون أمام الناس ، وفريقٌ ممن أوتي العلم ينصح ويعظ أولئك الذين يتمنون  مثله ويقولون : ( ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقّاها إلا الصابرون ) أي لايتعظ ولا يعتبر بهذه الدنيا ولا يزهد بها إلا من صبر وهجر زهرتها وأعرض عنها ، فهذه الدنيا ملعونة ، كما أخبر المصطفى عليه السلام زينتها غرور وصفوها كدر، وعيشها الحلو يعقُبُه المر ، فما كان من رب العزة والجلال إلا أن خسف به وبداره الأرض فصار عبرة وعظة للمعتبرين ، والشقي من وُعظ بنفسه والسعيد من وُعظ بغيره ، ومثل هذا الفعلِ يتكرر عبر الأزمنة من التعالي والغرور والإعجاب بالزينة والفخر والخيلاء الذي يصحب ذلك ، كل ذلك تكرر في أمم قبلنا وربما يتكرر في هذه الأمة ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجلٌ يمشي في حلّة تعجبه نفسه ، مرجّلٍ رأسه ، يختال في مشيته إذ خسف الله به في الأرض إلى يوم القيامة " ، وفي آخر الزمان يكثر الخسف كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام خسفٌ إنفرادي وجماعي ففي حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في هذه الأمة خسفٌ ومسخٌ وقذف " فقال رجلٌ من المسلمين : يارسول الله ومتى ذلك ؟ قال : " إذا ظهرت القينات والمعازف وشُربت الخمور " أخرجه الترمذي 

ولذا كان الإسبال محرماً لأنه بابٌ للخيلاء والغرور والإختيال وهو كبيرة من كبائر الذنوب ، صاحبَه خُيلاء أم لم يُصاحبه والخيلاء مع الإسبال أشد إثماً وأعظمُ جُرماً ، فالحذر من كل مايُسخط الله ويغضبه من هذه الموبقات التي تُوبق العبد وتُهلكه وتورده جهنم وبئس القرار ، فاللهم اعصمنا من كبائر السيئات ، واحفظنا من المعاصي في الجلوات والخلوات يارب الأرض والسماوات ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

============= الخطبة الثانية =============

الحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم أما بعد : 

فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى طاعة لله وقربة ، وحصنٌ من الشر وعصمة ، واعلموا أن النية في المال وتمني المال ليُستخدم في الطاعة والقربة إلى الله عز وجل  ينزِّلُ صاحبه منزلة الصدوق التاجر ذو الثراء المتصدق ، إن نوى العبد ذلك نيّة جازمة لا تصنّعَ فيها ولا كذب ، ففي حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أحدثكم حديثاً فاحفظوه ،إنما الدنيا لأربعة نفر : عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربّه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النيّة يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبِطُ في ماله بغير علم لايتقي فيه ربَّه ولا يصل فيه رحِمَه ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرُهما سواء " أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . 

وهذا الحديث جامع شامل لأحوال الناس مع المال والعلم وثوابهم بحسب نيّاتهم ، فمن نوى تسخير المال في الخير ووجوهه المتعددة  ولم يأبهُ يكن حريصاً على جمع المال ولم يُفتن بالدنيا ويتمنى ذلك المال من أجل البذل وفعل الخير بنية صادقة فأجره كمثل ذلك التاجر المتاجر مع الله  ، ولو لم يملك ذلك المال وذلك الثراء وكذلك العكس فمن نوى تسخير المال في وجوه الشر والفساد والباطل فهو ومن ينوي مثله بشر حال نسأل الله العفو والعافية . 

وهذا - ياعباد الله - يدلل على أهمية مراجعة القصد والنية في التعامل مع المال بالجملة ، ويحث على تصحيح النوايا والمقاصد ، ولذا كان السلف يحرصون تمام الحرص على تصحيح نيّاتهم وتعاهُدها لكي تستقيم لهم ، فكانوا بحق أسلم الأمة قلوباً وأعظمها نيّة ونفعا ، بل ويحثون على تعلم النيّة كما يُتعلّم العمل ، يقول سفيان الثوري رحمه الله وإيانا أجمعين : " كانوا - أي السلف - يتعلمون النيّة للعمل ، كما تتعلمون العمل " ويقول يحي بن أبي كثير : " تعلموا النيّة فإنها أبلغ من العمل " 

ومن النصوص النبوية التي تضبط تعامل المسلم  مع المال بشكل عام حديث سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه عبدالله بن عمر عن أبيه عمر رضي الله عن الجميع أنه كان يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقرُ مني ، فقال : " خذه ، إذا أتاك من هذا المال شيء وأنت غير مُشرف ولا سائل فخذه ، فتمولّه ، فإن شئت كُلْه ، وإن شئت تصدّق به ، ومالا فلا تُتبعه نفسك " متفق عليه ، فكان عبدالله بن عمر لايسأل أحداً شيئاً ولا يردّ شيئاً أُعْطِيَه ، ومعنى مُشرف : أي متطلّع لذلك المال متلهفة نفسُك للحصول عليه  . 

والحديث دلّ على النهج النبوي الذي ينبغي أن يتخذه العبد في التعامل مع الأعطيات والهبات كافة من ولي الأمر ومن دونه من الناس ، وأما من يتخوّض في مال الله فيصرفه في غير مصارفه الشرعية أياً كانت فما لَه يوم الدين إلا عذابَ الجحيم بنص قول النبي الكريم : " إن أناساً يتخوّضون في مال الله يغير حق فلهم النار يوم القيامة " رواه البخاري .

فليحذر العبد من الخوض في المال العام فهو مُحاسب ومسؤول ولا يُنجي حينها لاجاه ولا نسب ولا منصبٌ ولا حسب .

اللهم سلمنا من الشرور والآثام ومن كل مايسخطك ياعفو ياسلام ، ياذا الجلال والإكرام . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) 

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...