الحمدلله العلي الحكيم ، القوي العظيم ، الذي خلق للبشر مافي الأرض جميعاً وهو السميع العليم ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان أفضل الصلوات والتسليم أما بعد :
فاتقوا الله -عباد الله - واتخذوا كل وسيلة تقربكم من الله ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تُفلحون ) ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : المال نعمة من الله ، من استعمله في طاعة الله وأدى ماافترض الله عليه كان نعمة لذلك العبد وخير له ، وزاده الله من فضله ووسع عليه في رزقه ، وكما ورد في الحديث : " مانقص مالٌ من صدقة ، بل تزده بل تزده " ويؤتي سبحانه من ينفق الضعف في الدنيا ، وأضعافاً في الآخرة والله يضاعف لمن يشاء ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ) والذي يتصدق بما هو فوق الزكاة الواجبة فهو مبشّرٌ بالمضاعفة الكثيرة والنعيم والخير كما قال الله تعالى : ( من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثير والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) .
عباد الله : إن هذا المال فتنةٌ وامتحانٌ لكثير من خلق الله الذين لايؤدون حق الله فيه ، بل سخروا هذا المال في شهواتهم ولخدمة مصالحهم التي بعضها يهدم الدين والأخلاق في مجتمعنا ويُدّمر القيم والمبادئ لمجرد أن ذلك يوافق مافي نفوسهم من الشرّ والباطل ، وقد ضرب الله في كتابه المجيد مثالاً لمن كان المالَ له فتنة وجعله مثلاً للعالمين وهو قارون الذي كان من قوم موسى وقد ذكر أكثر أهل العلم كما أورد ذلك الطبري في تفسيره أن قارون كان ابن عم موسى لأبيه وأمه وهو قول ابن جريج وأنه بغى وتكبر ورزقه الله مالاً عظيماً كما قال الله تعالى : ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة ) أي يستثقل حمل مفاتيح الكنوز الجماعة من الرجال الأشداء الأقوياء أوصلهم بعض المفسرين إلى أربعين رجلاً كابن عباس والضحاك وغيرهم وقال بعض المفسرين أن تلك المفاتيح تُحمل على ستين بغلاً من كثرتها ، هذا شأن المفاتيح فما بالك بالكنوز نفسها والجواهر الثمينة التي أوتي .
لقد كان قارون جاحداً لنعمة الله تعالى ، مانعاً لحق الله في ذلك المال ، ولقد كان يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله مع ماجمع في قلبه من الكبر والغطرسة ، فتمادى به الحال وكفر بنعمة الله تعالى وأعرض عن الله وعن نبي الله موسى عليه السلام الذي أمره بالحق وباتباع صراط الله المستقيم ، ونصحه أهل الصلاح والخير من قومه بعدم الفرح وهو فرح الطغيان والأشر وأن يتخِذ هذا المال في العمل للدار الآخرة وأمروه بالإحسان وعدم طلب الفساد في الأرض فما كان منه إلا أن جحد فضلَ الله تعالى ونسب ذلك المال لعلمه وفضله فقال : ( إنما أوتيتُه على علمٍ عندي ) وهكذا كان كثيرٌ من الناس ممن أضل الله قلوبهم لاينسبون الفضل لله أولاً ثم لأنفسهم حينما تُفتح عليهم الدنيا بل ينسبونه لجهدهم وعلمهم وسعيهم والله يُمهلهم ويحلُمُ عليهم ، وقد بين الله هذا في كتابه : أن أناساً من هذه الأمة سيصيبهم مثل ماأصاب قارون كما قال الله تعالى : ( فإذا مس الإنسان ضرٌ دعانا ثم إذا خوّلنا نعمة منّا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لايعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ماكسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيُصيبهم سيئات ماكسبوا وما هم بمعجزين ) فلما أعرض قارون كان جرمُه ليس بعيداً عن جرم فرعون وهامان ولذا ضمّه الله معَهُما في معرض الآيات فقال جلّ وعلا : ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) .
عباد الله : خرج قارون ذات مرّة متباهياً متعالياً بزينته متكبراً ، فكان الناس وهم ينظرون إليه على فريقين فريقٌ يتمنى مثله ويريد أن يتباهى مثل ماكان يتباهى قارون أمام الناس ، وفريقٌ ممن أوتي العلم ينصح ويعظ أولئك الذين يتمنون مثله ويقولون : ( ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقّاها إلا الصابرون ) أي لايتعظ ولا يعتبر بهذه الدنيا ولا يزهد بها إلا من صبر وهجر زهرتها وأعرض عنها ، فهذه الدنيا ملعونة ، كما أخبر المصطفى عليه السلام زينتها غرور وصفوها كدر، وعيشها الحلو يعقُبُه المر ، فما كان من رب العزة والجلال إلا أن خسف به وبداره الأرض فصار عبرة وعظة للمعتبرين ، والشقي من وُعظ بنفسه والسعيد من وُعظ بغيره ، ومثل هذا الفعلِ يتكرر عبر الأزمنة من التعالي والغرور والإعجاب بالزينة والفخر والخيلاء الذي يصحب ذلك ، كل ذلك تكرر في أمم قبلنا وربما يتكرر في هذه الأمة ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجلٌ يمشي في حلّة تعجبه نفسه ، مرجّلٍ رأسه ، يختال في مشيته إذ خسف الله به في الأرض إلى يوم القيامة " ، وفي آخر الزمان يكثر الخسف كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام خسفٌ إنفرادي وجماعي ففي حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في هذه الأمة خسفٌ ومسخٌ وقذف " فقال رجلٌ من المسلمين : يارسول الله ومتى ذلك ؟ قال : " إذا ظهرت القينات والمعازف وشُربت الخمور " أخرجه الترمذي
ولذا كان الإسبال محرماً لأنه بابٌ للخيلاء والغرور والإختيال وهو كبيرة من كبائر الذنوب ، صاحبَه خُيلاء أم لم يُصاحبه والخيلاء مع الإسبال أشد إثماً وأعظمُ جُرماً ، فالحذر من كل مايُسخط الله ويغضبه من هذه الموبقات التي تُوبق العبد وتُهلكه وتورده جهنم وبئس القرار ، فاللهم اعصمنا من كبائر السيئات ، واحفظنا من المعاصي في الجلوات والخلوات يارب الأرض والسماوات ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============= الخطبة الثانية =============
الحمدلله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - فالتقوى طاعة لله وقربة ، وحصنٌ من الشر وعصمة ، واعلموا أن النية في المال وتمني المال ليُستخدم في الطاعة والقربة إلى الله عز وجل ينزِّلُ صاحبه منزلة الصدوق التاجر ذو الثراء المتصدق ، إن نوى العبد ذلك نيّة جازمة لا تصنّعَ فيها ولا كذب ، ففي حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أحدثكم حديثاً فاحفظوه ،إنما الدنيا لأربعة نفر : عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربّه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النيّة يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبِطُ في ماله بغير علم لايتقي فيه ربَّه ولا يصل فيه رحِمَه ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرُهما سواء " أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
وهذا الحديث جامع شامل لأحوال الناس مع المال والعلم وثوابهم بحسب نيّاتهم ، فمن نوى تسخير المال في الخير ووجوهه المتعددة ولم يأبهُ يكن حريصاً على جمع المال ولم يُفتن بالدنيا ويتمنى ذلك المال من أجل البذل وفعل الخير بنية صادقة فأجره كمثل ذلك التاجر المتاجر مع الله ، ولو لم يملك ذلك المال وذلك الثراء وكذلك العكس فمن نوى تسخير المال في وجوه الشر والفساد والباطل فهو ومن ينوي مثله بشر حال نسأل الله العفو والعافية .
وهذا - ياعباد الله - يدلل على أهمية مراجعة القصد والنية في التعامل مع المال بالجملة ، ويحث على تصحيح النوايا والمقاصد ، ولذا كان السلف يحرصون تمام الحرص على تصحيح نيّاتهم وتعاهُدها لكي تستقيم لهم ، فكانوا بحق أسلم الأمة قلوباً وأعظمها نيّة ونفعا ، بل ويحثون على تعلم النيّة كما يُتعلّم العمل ، يقول سفيان الثوري رحمه الله وإيانا أجمعين : " كانوا - أي السلف - يتعلمون النيّة للعمل ، كما تتعلمون العمل " ويقول يحي بن أبي كثير : " تعلموا النيّة فإنها أبلغ من العمل "
ومن النصوص النبوية التي تضبط تعامل المسلم مع المال بشكل عام حديث سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه عبدالله بن عمر عن أبيه عمر رضي الله عن الجميع أنه كان يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقرُ مني ، فقال : " خذه ، إذا أتاك من هذا المال شيء وأنت غير مُشرف ولا سائل فخذه ، فتمولّه ، فإن شئت كُلْه ، وإن شئت تصدّق به ، ومالا فلا تُتبعه نفسك " متفق عليه ، فكان عبدالله بن عمر لايسأل أحداً شيئاً ولا يردّ شيئاً أُعْطِيَه ، ومعنى مُشرف : أي متطلّع لذلك المال متلهفة نفسُك للحصول عليه .
والحديث دلّ على النهج النبوي الذي ينبغي أن يتخذه العبد في التعامل مع الأعطيات والهبات كافة من ولي الأمر ومن دونه من الناس ، وأما من يتخوّض في مال الله فيصرفه في غير مصارفه الشرعية أياً كانت فما لَه يوم الدين إلا عذابَ الجحيم بنص قول النبي الكريم : " إن أناساً يتخوّضون في مال الله يغير حق فلهم النار يوم القيامة " رواه البخاري .
فليحذر العبد من الخوض في المال العام فهو مُحاسب ومسؤول ولا يُنجي حينها لاجاه ولا نسب ولا منصبٌ ولا حسب .
اللهم سلمنا من الشرور والآثام ومن كل مايسخطك ياعفو ياسلام ، ياذا الجلال والإكرام . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )