فاتقوا الله - عباد الله - فقد فاز المتقون وسبق المفردون ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : الروح ؟ وما أدراك ما الروح ؟ خلقٌ من خلق الله مُعجزٌ دال على عظيم القدرة وعزيز القوة وجبروت العظمة لله القوي القهار البديع الذي لاتُدركه الأبصار ولايخفى عليه مايكون في السماء ومايدب على الأرض في الليل والنهار .
إن الروح - ياعباد الله - من أمر الله ومن خلقه وبديع صعنه البارع المبهر الذي يأخذ بالألباب ,العقول ويدهش أولي الأحلام والنهى لايعرف كنهها إلا الله ولا حقيقة خلقها إلا هو ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) والروح وردت في القرآن بمعانٍ منها : روح الإنسان أي نفسه التي بين جنبيه وكذلك تأتي بمعنى الوحي حيث يقول جل وعلا : " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ماكنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه روحاً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " والروح الأمين هو جبريل عليه السلام الذي نزل بالقرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسانٍ عربي مبين ) وسماه أيضاً روحُ القُدس وأيد عيسى به عليه الصلاة والسلام فقال جل وعلا : ( إذ قال الله ياعيسى ابنَ مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتُك بروح القُدُس تُكلم الناس في المهد وكهلا . . ) الآية والقُدُس والقداسة هي النزاهة والطُهر ، وجبريل عليه السلام هو أعظم الملائكة خلقاً وأعظمهم مكانة ورفعة عند ربه وهو الموكل بالوحي ورسولُ الله لأنبيائه ورُسله عليهم الصلاة والسلام وصفه ربه بأنه ( شديد القُوى * ذو مرّة فاستوى ) والمقصود بالمِرّة أي الخلْقُ الحسن حيث أنه استوى في الأفق لنبيا بادياً خلقَه لنظره عليه الصلاة والسلام قد سدّ خَلْقَه مابين السماء والأرض ، ومن مكانته عند ربّه أن الله يضيفه لنفسه فقال في شأن مريم عليها السلام : ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّا ) فقام بالمَهمَّة وهي النفخ في جيب البتول عليها السلام فحملت به وذلك آية من آيات الله البارئ المصور القدير القادر الذي لايُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .وقد تُسمّى رحمةُ الله رَوحاً كما قال يعقوب عليه لبنيه : ( يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسفَ وأخيه ولا تيأسوا من رَوح الله إنّه لاييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون )
عباد الله : من تأمل خلق عيسى عليه السلام ونفخَ روحه في بطن أمه يجد عجباً وقدرة قادرعظيم جعله الله وأمه آية للعالمين وحُجة على قدرة رب العالمين وعبرة للمتأملين ، وليس ذلك بأعجب من خلق آدم الذي خُلق بلا أب وأم ، وإن كلامَه عليه الصلاة والسلام في المهد حجةٌ على اليهود وعلى بني اسرائيل وإحيائه للموتى وخَلْقِه من الطين كهيئة الطير ونفخه ليكون طائراً وإبرائه الأكمه - وهو الذي ولد أعمى - والأبرص وإحيائه للموتى وكل ذلك بأمر الله وقدرته لاقدرة غيره من البشر مهما كانت وجاهتهم كل ذلك حجة على أهل الكتاب خاصّة في زمانهم وحجة على العالمين لمن جاء بعدهم ، وضربَ الله جل وعلا مثلَه في القرآن ( إن مَثل عيسى عند الله كمثل آدم خلَقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكوننّ من المُمترين ) فهذا الحق الماضي إلى يوم القيامة وهذا هو الطريق الأبلج الذي لامراء فيه ، وقد قطع الله حُجة المحاجين في عيسى السلام حيث يقول الحق تبارك وتعالى : ( فمن حاجّك فيه من بعد ماجاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفُسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) والمقصود بالمباهلة : هي حلفُ فريقين بالله العظيم على أن مايدعيه ذلك الفريق هو الحق ، ففريقٌ على الحق وكذلك أنبياء الله ورسله وأوليائه وفريقٌ على الباطل وهو الخصم المعاند المُكابر ، والعادة أن الفريق الكاذب المُباهل لاتمضي سنة وهو حي ، فيفنى قبل نهاية الحول وذلك آيةٌ من آيات الله فلهذا يخاف أعداء الله من المُباهلة ويرون أنها ماحقة حتى للنسل ، وكذلك أمر الله نبيّه أن يباهل نصارى نجران عندما دعاهم النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى الحق فأبوا وزعموا أنهم على الحق وكابروا فلم يدخلوا في دين الله ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نساءَه وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ فأشار إليهم شُرَحْبِيل بن وداعة الهمداني وكان من أسيادهم ومعه صاحبان له من أشرافهم وقال لهم : " إني والله أرى أمراً ثقيلاً ، إن كان هذا الرجل - أي النبي صلى الله عليه وسلم - مَلكاً متقويّاً فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لايذهبُ لنا من صدره ولا من صُدور قومه حتى يُصيبونا بجائحة ، وإنّا أدنى العرب منهم جواراً ، وإن كان هذا الرجل نبياً مُرسلاً فلاعنّاه فلا يبقى على وجه الأرض منّا شعرة ولاظفرٌ إلا هلك " فقال له صاحباه : فما الرأي قد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك ؟ فقال : " رأيي أن أحكّمه فإني أرى رجلاً لايحكم شططا أبداً " فقالا له : أنت وذاك ، فلقي شُرَحبيل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني رأيت خيراً من ملاعنتك " فقال : " وماهو " فقال : " حُكمك اليوم إلى الليل وليلتُك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز " وقوله ذلك إقرار منه عن قومه بالجزية المفروضة على أهل الكتاب كما هو في كتاب الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعل وراءك أحداً يثرّب عليك " فقال له شرَحبيل : " سل صاحبيّ " فسألَهما فقالا : " مايرِد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شُرحبيل ، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام عليهم بالجزية ورضَوا بها ورجعوا إلى نجران بعدما كتب لهم كاتب النبي صلى الله عليه وسلم بالجزية بأمر منه على كل مال لديهم .
عباد الله : قد يطعن النصارى أو اليهود في دين الله ممن يتَتَبّع الشُبه فيقول إن عيسى روحٌ من الله ومن هنا أتت للتبعيض أي أن عيسى المسيح بعضٌ من الذات الإلهية كما قال الله تعالى في كتابه : ( إنما المسيح عيسى ابنُ مريم رسول الله وكلمتُه القاها إلى مريم وروحٌ منه . . ) وقولُهم ذلك باطل ينفيه النقل والعقل فالنقل كما ورد في كتاب الله مما سبق ذكره : ( إن مثلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) وأما العقل فإن الذات الإلهية الكاملة في العقل البشري لايُمكن أن يكون لها شبيه ولا نظير ولا ندٌ ولا ولد ولو كان كذلك للزم توارث الملك واختلافه ولزم من ذلك أن يلحقَ الذات الإلهية الموت ، وهذا مُحال لايقبله العقل ولا المنطق فالأرواح التي تتولد منها أرواح مثلُها تفنى مع مرّ الزمان كما هي الأرواح من البشر والجن والحيوان الذي جعلهم الله خلائف في الأرض تعالى الله ربنا عن ذلك وعن قول كل ظالم يقول على الله بغير علم ولذا وبّخ الله كل مشرك الذي يزعم أن الملائكة بنات الله أو يزعم أن لله ولد بقوله : ( قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له مافي السماوات ومافي الأرض إن عندَكم من سلطان بهذا أتقولون على الله مالا تعلمون ) فالخلاصة أن إضافة الروح لله في الآية هي إضافة تشريف لاتبعيض بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود .
============= الخطبة الثانية ==============
الحمدلله أهلُ الثناء والحمد بيده الخير والسعد ، لامانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع ولا ينفع ذا الجَدّ منه الجَد والصلاة والسلام على رسول الله الذي بُعث بالوعيد والوعد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضائل والمجد وعلى من تبعهم بإحسان ٍإلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن من يتأمل آية الميثاق وهي قول الله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) يجد أن الأرواح مخلوقة قبل خلق الأجساد ، فكل بشر خُلقت روحه قبل جسده إلا آدم عليه السلام فقد خُلق جسده قبل روحه بنص قول الله تعالى حيث يقول : ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ) .