الحمدلله الذي وعد عباده المتقين بدار النعيم وأوعد الفجار بدار الذل والجحيم والصلاة والسلام على النبي الكريم نبينا محمدٍ الذي دل على صراط الله المستقيم وسبيله القويم وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - فهي وصية الله للأولين والآخرين ( . . ولقد وصينا الذين من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله مافي السماوات ومافي الأرض وكان الله غنياً حميدا ) ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
إخوة الإيمان : دار النعيم سلعةُ الله تعالى تكد لها النفوس وتجهد لها الأرواح لطلبها وهي غالية لاينالها إلا المتقون ولا يحوزها إلا المجاهدون لأنفسهم المتغلبون على هواهم أمر الله بالمسارعة لها حيث قال جل شأنه : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) وقال في سورة الحديد : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
عباد الله : وصف الله جلّ وعلا في كتابه أنواع النعيم وقسم الناس مع هذا النعيم إلى فئتين وهما : السابقون ، وأصحاب اليمين ، وذكر الله صنوف النعيم للسابقين فقال : ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون ، في جنات النعيم * ثلّةٌ من الأولين * وقليلٌ من الآخرين * على سررٍ موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين * لايصدّعون عنها ولا ينزِفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحورٌ عين كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاءً بما كانوا يعملون ) ونعيمهم هذا أفضل من أصحاب اليمين وأرفع درجة ومنزلة عند الله وذلك يتبين في معرفة نعيم أصحاب اليمين حيث قال الله فيهم جلا وعلا : ( وأصحاب اليمين ماأصحاب اليمين * في سدرٍ مخضود * وطلحٍ منضود * وظلٍ ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة لامقطوعة ولا ممنوعة * وفرشٍ مرفوعة * إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً * عُرباً أتراباً * لأصحاب اليمين * ثلة من الأولين * وثلّة من الآخرين ) ومعنى السرر الموضونة : هي السرر المنسوجة بأفضل النسج ، والمقصود بقوله : " وكأس من معين " أي من نهر خمر جارية ظاهرة لاتضعف ولا تنقطع والخمر في الدنيا - أجاركم الله - فيها أربع آفات تصيب ابن آدم وهي ذهاب العقل والصُداع والقيء والبول ، وقد نزّه الله خمر الآخرة عن هذه الآفات ولذا قال جلّ وعلا : ( لايُصدّعون عنها ولا يُنزفون ) أي لايصيبهم الصداع ولا تنزف عقولهم أي تذهب ، والسدر المخضود الذي ذكره لأصحاب اليمين هو شجر النّبق المخضود الذي نُزع شوكه ، وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ماهي " قال : " السدر فإن له شوكاً مؤذياً " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أليس الله يقول : ( في سدرٍ مخضود ) خضد الله شوكَهُ فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتُنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام ، مافيها لون يشبه الآخر " والطلح المنضود وهو فاكهة الموز المتراكب بعضه فوق بعض .
عباد الله : يتبين الفرق بين النعيمين أن قرب السابقين من الله أكثر من غيرهم وكذلك أنهم قلّة في هذه الأمة وأكثر هذه الأمة من أصحاب اليمين ، وروي في حديث عن الحسن البصري مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سوّى بين أصحاب اليمين من الأمم السابقة وبين أصحاب اليمين من هذه الأمة وكان السابقون من الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة وكذلك في ذات النعيم وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنه عند قول الله تعالى : ( عيناً يشربُ بها المقربون ) شُرباً وتمزجُ لأصحاب اليمين مزجاً وكذلك في النساء فرقٌ بين أصحاب اليمين والسابقين ، فقال بعض المفسرين : إن الحور العين للسابقين ، والعُربُ الأتراب لأصحاب اليمين ، والعَروب من النساء المتحببة لزوجها والأتراب من النساء هنّ المتساويات في السن وروي في أثر عند قول الله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) قيل : " جنتان من ذهب للمقربين أو قال : للسابقين ، وجنتان من ورِق - وهي الفضة - لأصحاب اليمين وهذا يدلل على التفاضل الكبير بين السابقين وأصحاب اليمين .
عباد الله : إن أفضل درجات الجنة الفردوس ولذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح أن نسأل الله الفردوس في دعائنا فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا سألتُم الله فاسألوه الفردوس فإنها وسط الجنة وأعلاها وفوقُها عرش الرحمن ومنها تفجير أنهار الجنة " وفي الحديث الآخر : " في الجنّة مائة درجة مابين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ، ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " أخرجه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه .
والله جل وعلا بين صفات من يرثون الفردوس كما في سورة المؤمنون فقال جل شأنه : ( قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانُهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلوتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) فتفقد أخي نفسك في تلك الأوصاف وهي أوصاف أهل الفردوس وطبق تلك الأوصاف على نفسك فإن كنت من أهلها فأبشر وأحسن بقيّة عمُرك وسابق إلى الخيرات واستعن بالغدوة والروحة وشيء من الدُلْجة كقيام الليل ، وكما قال المصطفى عليه السلام : " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة " ومعنى قوله : " من خاف أدلج " أي سار في الليل وفي وقت هجوع الناس لكي لايُدركه قُطاع الطرق وهو كناية عن المبادرة لفعل الخير والسباق في العمل لئلا يفجع ابن آدم الموت ويفوته الكثير من الخير وربما تحيط به سيئاته فيكون من أهل النار وكل عمل صالح إذا تقرّب ابن آدم لربه به ، وأكثر منه أبعده ذلك عن مزالق الفتنة ومهاوي الردى .
عباد الله : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشحذ همم أصحابه ويحثهم أن يشمّروا لجنة الرحمن وييبن شيئاً من صفتها فيقول كما عند ابن ماجة وابن حبان رحمهما الله قال عليه الصلاة والسلام : " ألا هل مشمرٌ للجنة ؟ فإن الجنة لاخطرَ لها ، هي ورب الكعبة ! نورٌ يتلألأ وريحانةٌ تهتز ، وقصرٌ مشيد ونهرٌ مطّرد ، وفاكهة كثيرةٌ نضيجة ، وزوجةٌ حسناء جميلة ، وحللٌ كثيرة في مقامٍ أبداً . في حَبْرَةٍ ونَضرَة . في دار عالية سليمةٍ بهيّة " قالوا : نحن المشمّرون لها يارسول الله ، قال : " قولوا : إن شاء الله " فقالوا : " إن شاء الله " والحديث له روايات متعددة .
جعلنا الله وإياكم منهم وعاملنا بلطفه وإحسانه وزرقنا الفرودس دارَ رضوانه أقول ماسمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
================= الخطبة الثانية ===================
الحمدلله المنّان ذو الفضل والإحسان والصلاة والسلام على النبي من نسل عدنان وعلى من تبعه إلى يوم الدين بإحسان ، أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن الفوارق كثيرة بين هذه الدار الدنيوية ودار النعيم التي هي دار أخروية فما في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء ولذا يروي الإمام سفيان الثوري ابن عباس رضي الله عنهما عند قول الله تعالى : ( وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مطهرة وهم فيها خالدون ) قال : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " وكذلك عند وروي عن يحي بن أبي كثير قال : " يُؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء ، فيأكل منها ثمّ يُؤتى بأخرى ، فيقول : " هذا الذي أوتينا به من قبل " فتقول الملائكة : " كل فاللون واحد ، والطعمُ مختلف " .
وذُكر عند قول الله تعالى في وصف الجنة : ( . . تجري من تحتها الأنهار . . ) ماروي عن ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنها الجنّة تفجّرُ من تحت تلال المسك أو من تحت جبال المسك " . وروى الإمام احمد والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يارسول الله إنا إذا رأيناك رقّت قلوبُنا وكنّا من أهل الآخرة وإذا فارقناك أعجبتْنا الدُنيا وشممنا النساء والأولاد ، قال : " لو تكونون - أو قال - لو أنّكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ، ولزارتكم في بيوتكم ، ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقومٍ يُذنبون كي يغفر لهم ، قال : قلنا : يارسول الله ، حدثنا عن الجنّة : مابناؤها ؟ قال : لبنة ذهب ولبنة فضة ومِلاطها المسك الأذفر - أي ما اشتدت رائجته وراجت - وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وتُرابها الزعفران ، من يدخُلُها ينعمُ ولا يبأس ويخلُدُ ولا يموت ، لاتبلى ثيابُه ولا يفنى شبابُه " وصحح الحديث جمعٌ من أهل العلم .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعلم آخرأهل النار خروجاً ، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة ، رجلٌ يخرجُ من النار حبواً ، فيقول الله تبارك وتعالى له : اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيُخيّل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول : يارب وجدُتها ملأى ، فيقول تبارك وتعلى به : اذهب فادخل الجنة ، قال : فيأتيها فيُخيّل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول : يارب وجدتُها ملأى فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة ؛ فإن لك مثل الدنيا وعشرُ أمثالها أو إن لك عشر أمثال الدنيا ، قال فيقول : أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك " قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجده ، قال : فكان يقال : ذاك أدنى أهل الجنة منزلة . أخرجه البخاري ومسلم .
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال جل شأنه : ( إن الله وملائكتَه يُصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق