الخميس، 12 ديسمبر 2019

خطبة عن حال المسلمين بتركستان الشرقية والهجرة .

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحزبه وعلى من اقتفى أثره واستنّ بسنته إلى يوم الدين أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله فبالتقوى من عذاب الله نتقي وبه إلى العلا نرتقي . . ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا ًكثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) .
ثم اعلما أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ في دين الله بدعة ٌ وكل بدعة ٍضلالة وكل ضلالةٍ في النار وعليكم بالجماعة فإن الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار ) .
عباد الله : الأخوة الإيمانية أقوى العلاقات وأنفعها ، وعند الله أرفعها ، وهي حينما يجمع الله معها الحب في ذاته العلية فهي أوثق عرى الإيمان كما ورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال : " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " كما ورد في مسند أحمدَ رحمه الله بل ورد أنها هي الباب لاستكمال الإيمان كما ورد ذلك من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " ويقول كعبُ الأحبار رحمه الله :" من أقام الصلاة وآتى الزكاة وسمع وأطاع فقد توسّط ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " والعلاقة بالإسلام وأهله أياً كانوا من طبع المؤمنين وامتدح الله أصحاب نبيّه الذين معه بأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم والرحمة تشمل - معشر المسلمين - القريب والبعيد منهم في بلدك وغيره من بلدان المسلمين ، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد - وفي رواية : الواحد - إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى " وقد جاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر حيث قال : " في هذا الحديث تعظيمٌ لحقوق المسلمين والحضّ على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضا " .
معشر الإخوة : من تأمل الجسد بشكل ٍعام وجد أن كل عضو فيه يصيبه مايصيبه عندما يشتكي عضوٌ من الأعضاء وهذا يُنبي للمتلقي والسامع أن التشبيه النبوي يجعل جميع المسلمين يتألمون لحال إخوانهم الذين قدّر الله عليهم من الكوارث والحروب أو المجاعات والنكبات ويقفون معهم بمالهم وأنفسهم ومن لم يهتم بذلك ولم يُراعي هذا الجانب المهم الحيوي الذي يقوم عليه دين العبد فهل يُطلق على مثل هذا بأنه عضوٌ من ذلك الجسد المسلم ؟
عباد الله : من تأمل حال المسلمين في كثيرٍ من البلاد وجد أن حالهم لاتسرّ الصديق وتغمُّ قلبَ كل مؤمنٍ فإنه علاوة على مايتعرض له إخواننا في الشام - في السنوات الأخيرة وفي فلسطين - من سالف العهد ، غفل كثيرٌ من المسلمين عن مايتعرض له المسلمون في أرض تركستان الشرقية من قِبل جند الحكومة الصينية الوثنية الشيوعيّة والتي غيّرت مسمى الولاية إلى ولاية " شينغيانغ " وشنّت هجمات ممتابعة لاتُحصى على المسلمين يستهدفونهم في دينهم وعقيدتهم وأهليهم لأن الصين الشيوعية ترى الهوية الإسلامية من أكبر العوائق لها في مدّ نفوذها وإحكام سيطرتها وهيمنتها على المنطقة ، علماً أن قضيتَهم متأزمة من أكثر من أربعة عقود وبالتحديد من قبل عام 1385 من الهجرة إلا أنها في فترة الرئيس الذي يُدعى " ماو " من أشد الفترات التي نالهم فيها من الأذى والتعذيب أكثر من غيرها ، وفترة رئاسة الزعيم المذكور استمرت لعشر سنوات طبّق حينها مايُسمّى بالإنقلاب الثقافي وبموجبه هُدمت المدارس ومنعت صلاة الجماعة وأغلقت مدارس القرآن وبُنيت المعابد الوثنية بدلها ، وكل ذلك منذ احتلالها في عام 1368 للهجرة اتى بالتدريج إلى أن استفحل الأمر فنسأل الله لهم الفرج والنصر العاجل .  

عباد الله : إن من أشد مايواجه إخواننا في تركستان الشرقية أو مسلمي الأيغور هو التعذيب والقتل والتنكيل ، فأولئك الأعداء الذين هم من قبائل وشعب الهان - أهانهم الله
- والذين يقومون بتعذيب المسلمين بأشد وأقسى أنواع التعذيب فالضرب بالسياط ونزع الأظافر وقطع الأطراف والتجريح بالسكاكين ينال الرجال والنساء معاً بل وينال بعض الأطفال ، مع التجريد من الملابس والإغتصاب للنساء والفجور والضرب حتى الإختلال العقلي هذا أصبح أمراً اعتيادياً ، بل أصبح من يسافر ويُهاجر من تلك الديار لأي دولة مسلمة أو غير مسلمة فلن يفرح برؤية والديه أو إخوانه أو أسرته حتى الموت فهو بين أمرين احلاهما مرّ وينظر من وراء أقلّهما الضُرّ ، إما أن يعود فيقبض عليه أذناب الحكومة الوثنية فيسومونه سوء العذاب ، أو يمكث مغترباً طول حياته فاللهم لاتُسلّط علينا بذنوبنا من لايخافك فينا ولا يرحمنا . 
عباد الله : لم يكتف أولئك الفجرة من أذناب النظام الوثني الشيوعي من ذلك كلّه بل بدأوا بسحب جوازات السفر للمسلمين ومنعهم من السفر للخارج ومطاردتهم في كل مكان وخصوصاً ممن هاجر لجمهوريات آسيا الوسطى حتى لو كان ممن يخضع لأوامرهم ولتعليماتهم ، بل يتدخل أراد جيشهم  حتى في اختيار اللباس للمسلم وإدخال البرامج في الأجهزة وتقييد الحريّات التي لايتضرر منها أحد ، فالمسألة تعدت ذلك إلى عبودية لم تشهد الإنسانية لها مثيل في الماضي ولا الحاضر فاللهم ادفع عن المسلمين تعنت المجرمين يارحمن يارحيم واقصم واردع الظالمين ياقوي يامتين أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل المساوئ والخطايا إنه غفور كريم العطايا . 
===========  الخطبة الثانية  ===========


الحمدلله كاشف الضر والبلاء أحمده وهو أهل المجد والثناء وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة من خالق الأرض والسماء وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاماً دائبين من الروح والوجدان أما بعد :

إن البلاء من سُنّة الله في عباده ، ولكن لايجوز للعبد أن يُعرّض نفسه للفتنة وإن الله أوجب على المفتون من المسلمين أن يُهاجر إذا استطاع لذلك سبيلاً ، بل توعّد الله من لم يُهاجر من أرض الكفر إلى أرض الإسلام بعذاب الجحيم حيث قال جلّ ذكره وتقدّس قولُه :( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ًولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّا غفورا ) وذلك أن الله لايرضى للمؤمن المهانة ومصداق ذلك قول الله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) فجعل تصديق ذلك شرطٌ للإيمان ، وقال في آية أخرى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لايفقهون ) بل نهى نبيّه عن الحزن وهو نبي مرسل ، ومن أشد الناس بلاءً عليه الصلاة والسلام فقال : ( ولايحزنك قولهم إن العزة لله جميعاً هو السميع العليم ) وفي أخرى : ( فلا يحزُنك قولهم إنا نعلم مايُسرّون وما يعلنون ) فالمقصود من ذلك كلّه أن يفرّ للمؤمن بدينه من فتنة الكفار وأذيتهم لا المسلمين ، لأنه ورد أن الذي يُخالط الناس - أي المسلمين ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لايُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .
عباد الله : الهجرة للعبد خيرٌ له من الإقامة في بلد يعرّض حين الإقامة فيه نفسه للقتل والتشريد وانتهاك العرض ، وقد وعد الله المهاجرين بالسعة والرزق وإن توفاه الله وهو في الطريق فله الأجر العظيم والمثوبة من الله فقال سبحانه :
( ومن يُهاجر في سبيل الله يجد مُراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم دركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيما )
عباد الله : إن مما يجب على المسلمين تجاه إخوانهم في تركستان وغيرها دعمهم ومناصرة قضيهم والوقوف بجانبهم بالدعم والعون والدعاء الدائم والإبتهال إلى الله بحقّ أن يرفع عنهم ماحلّ بهم من بلاء وأن نقاطع - بقدر الإمكان - تلك البضائع التي تغزونا من العدو الصيني وغيره ، فإن الكافر إذا هددت بدنياه خضع وخنع ، ولا تستكثر أي معروفٍ تُقدمّه ، فالله ينميه ويُكثّره ويعلمه وهو الجواد الكريم الرؤوف الرحيم

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . .

الخميس، 14 نوفمبر 2019

خطبة عن الإكتتاب بالشركات المختلطة وغير المختلطة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلّ له ومن يُضلل فلا هادي له واشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بين يدي الساعة فأنار به البصائر وبصّر بالرب القلوب وفتح الله به أعيناً عُمياً وآذاناً صمّا وقلوباً غُلفا فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين وسلمّ تسليما ًكثيراً أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله -  فما أقرب النجاة والفلاح من المتقين وأبعدها عن غيرهم من الخلائق المفرّطين ( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )( ومن يخش الله ويتّقْه فأولئك هم الفائزن ) 
عباد الله : كبيرة من الكبائر الموبقة ارتكبها خلقٌ كثير من الناس بحجة ضغط الواقع واستفحال الطمع المستشري في المجتمع ، واللهث وراء المال بجلبه وبغض النظر عن طريقه وكسبه ، وإغراء أهل الشهوات وتزيين الحرام بتلبيسه بالحلال والسعي وراء الثراء المزعوم وخلط الباطل بالحق المعلوم من أجل اللبس على الفهوم ، كبيرة أذن الله فيها بالحرب على ارتكبها في الدنيا بمحق المال وخسارة المقدرّات وإرسال البلايا والآفات على من يتعامل بها ، وفي الآخرة بالعذاب والبوار وسوء المصير مع خبط الشيطان له حين القيام من القبر عند البعث والنشر ، فلعلكم عرفتموها وعرفتم صاحبها ومصيره ومنقلبَه الذي إليه ينقلب ، تلك هي كبيرة الربا وذلكم هو حال المرابي حينما أخبر الله عنه بقوله : ( الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيزٌ ذو انتقام ) . 
عباد الله : قد كان أهل الجاهلية ممن يتعامل بالربا فقد كان الرجل يسقترض مالاً من رجل ٍ لحول كامل فإذا أتى عليه الحول قال له صاحب المال إمّا أن توفي وإما أن تُربي فيفرح المدين المستقرض بذلك ثمّ تمر عليه سنون عديدة وهذا حاله كلّما أتاه صاحب المال يُطالبه طلب الإمهال مع الربا حتى يكثُر الدين فلا يبقى له شيءٌ يقتات به في عيشه ولا يجد عيالُه مايسدون به رمقهم فلمّا جاء الإسلام أبطل ذلك وحذّر منه كل التحذير وحذر أصحابه من سوء العاقبة والمصير ، وقال في خطبته الشهيرة في حجة الوداع والتي كانت من رواية جابر بن عبدالله رضي الله عنه كما في صحيح مسلم : 
" ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية  تحت قدمي موضوع ودماء أهل الجاهلية موضوعة وأول دم ٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مُسترضعاً في بني سعد فقتلته هُذيل ، وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كلّه " أي مهدر لايُطالب به أحد من آل عبدالمطلب وقال أيضاً كما في صحيح مسلم : " لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء "
وقال صلى الله عليه وسلم : " ماظهر في قوم ٍالربا والزنا في إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله " أخرجه أحمد والحاكم وأبويعلى وصححاه ، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : " درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشدّ عند الله من ست ٍوثلاثين زنية " وصحح إسناده بعض أهل العلم وهذا يدلل على خطر الربا وأثره المشين على الفرد خاصة والمجتمع عامّة فالواجب الوقوف والإنتهاء عمّا نهى الله عنه وإلا فالعقوبة إذا وقعت شاملة عامّة فهل من يقظ ٍ يحذرمن مغبّة ذلك وسوء مآله ويحرص على الكسب المباح في ماله كلّه 
عباد الله : الربا له أبواب كثيرة ولكن يجمعها ربا الفضل وربا النسيئة فمن وقع في أي نوعٍ منهما فقد وقع في الربا وربا الفضل هو ربا الزيادة في أحد العوضين كأن يأخذ مالا ً ديناً ويرد أكثر منه مشارطة بينها وربا النسيئة وهو تأخير أحد العوضين عن التسليم في الحال كمن يبيع تمر بتمر ديناً أو برّ ببرّديناً أي مؤجلاً ، وقلنا في ربا الفضل مشارطة بينهما أي على سبيل الشرط ، أما لو كانت الزيادة من قِبَل المستقرض تبرّع بها من عنده بدون اشتراط بينهما مُسبق فهي جائزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم  زاد جابر بن عبدالله وزاده كما ورد في الصحيحين وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إن خياركم أحسنكم قضاء " كما ورد في صحيح مسلم ، ومن قدّر الله عليه أن دخل في شركة تتعامل بالربا أو تأخذ قروضاً ربوية وتستعين بها في نشاطها المطروح فعليه أن يخرج منها برأس ماله لقوله تعالى ( فإن تُبتم فلكم رؤوس أموالكم لاتظلمون ولا تُظلمون ) ولا يُعرّض ماله للتلف والمحق فإن الله تعالى توعّد بمحق الربا في الدنيا والآخرة فقال جلّ ذكره  " يمحق الله الربا ويُربي الصدقات والله لايُحب كل كفّارٍ أثيم " 

عباد الله : من تبصّر بشأن الربا وآثاره يجد أن الله ماحرّمه إلا لحكم عظيمة يجهلها الكثير من الناس فمنها على الفرد أنه يقتل الإنتاجية في الفرد فإذا علم المُبتلى ومن وقع في فخّ الربا أنه سيقضى أكثر حياته أو كلها في سداد الديون لفلان أو فلان فسيكون ممن يلجأ إلى ترك العمل والإجتهاد في الكسب لأنه يعلم أنه سيكدح من أجل تأمين قوت نفسه وعياله ومن ثمّ يأخذ ذلك كلّه المرابي ولا يُبقي له شيئاً وذلك أن المرابي لايهمّه إلا تحصيل الدين ونزع المال من جيوب من وقعوا في شباكه ، ومن آثاره على المرابي نفسه أنه يقتل فيه أثر الشفقة والرحمة فيكون إنساناً مادياً لايعرف حق الله في هذا المال الذي آتاه الله إياه فتنة له وامتحاناً مع منع الزكاة في ماله والتي هي حقٌ للفقير ، مع أثر الربا على أولاده والذي في الغالب أنه لاينتفع بهم وكما قال صلى الله عليه وسلم : " جسدٌ نبت من سُحت فالله أولى به " . 
 ومن آثارها الاقتصادية على المجتمع تقويض المشاريع النافعة في البلد وذلك أن صاحب المشروع إذا علم بعدم الجدوى من أي مشروع سيقيمُه لأنه لايستطيع التحرر من الديون التي تلاحقه فلن يُقدم على إنشاء أي مشروع ينفع مجتمعه وأهل بلده بسبب ملاحقة الشركات أو المؤسسات الربوية التي لم تُبق له شيئاً . 
ومن آثاره الاقتصادية أيضاً : تزايد البطالة في المجتمع وحصول مايُسمى بالتضخم والذي يُنذر بكساد السلع ( أي عدم إقدام الناس على شرائها ) ومن ثم انهيار الأسواق وضعف الاقتصاد بالجملة ووقوع البلد في مصاف الدول الفقيرة في المستقبل ومن سبر الواقع وجد أن ذلك خير شاهد ، عصمني الله وإياكم من شرّ الربا وآثاره وأغنانا سبحانه بحلاله عن حرامه وبفضله عن من سواه أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي واكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود . 

============= الخطبة الثانية =============

الحمدلله ذو الفضل المبين القوي المتين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين وقدوة الخلق أجمعين نبينا محمد ٍوعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم وعنّا معهم إلى يوم الدين أما بعد :

فاتقوا الله تعالى عباد الله ثمّ اعلموا - رحمكم الله - أنه يجب على المرء المسلم أن يبحث عن طرق الكسب المشروعة ولا يقحم ماله في مواقع كسب محرمة وليستصحب مخافة الله في ذلك ومما ينغي أن يحذر منه  الإكتتاب في  أي شركة مختلطة تستقرض قروضاً ربوية أو لديها نظام يقوم على الفائدة الربوية والغرر وقد أفتى بحرمة ذلك كبار أهل العلم ومنهم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وهو المُفتى به من قِبَل اللجنة الدائمة والمجامع الفقهية . 

ومما ينبغي أن يحذر منه المسلم التداول بالبورصات العالمية والتي في الغالب تقوم على الإقراض بفائدة وكذلك جريان ربا النسيئة والفضل فيها ولا يحصل فيها التقابض في مجلس العقد ، وتجد إعلاناتٍ في جوالك تغري بالثراء عندما تتصفح بعض المواقع ومنها المسماة بالفوركس ( وهي شركة تداول عملات ) فالحذر منها علماً أنه يدخلها التحايل وقد فقد كثير من الناس أموالهم بسبب المجازفة وقد سُئل عنها مجمع الفقه الإسلامي فأبان حرمتها وذكر مانصّه : 

" يرى المجلس أن هذه المعاملة - أي التداول بالفوركس - لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية :
أولاً : ما اشتملت عليه من الربا الصريح ، المتمثل في الزيادة على مبلغ القرض ، المسماة (رسوم التبييت) ورسوم التبييت وهي زيادة مشروطة تُفرض على المستثمر إذا لم يتصرف في الصفقة في اليوم نفسه ، فهي من الربا المحرم ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) البقرة/278، 279 .
ثانيا: أن اشتراط الوسيط على العميل أن تكون تجارته عن طريقه ، يؤدي إلى الجمع بين سلف ومعاوضة ( السمسرة ) ، وهو في معنى الجمع بين سلف وبيع ، المنهي عنه شرعاً في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل سلف وبيع ...) الحديث رواه أبو داود (3/384) والترمذي (3/526) وقال : حديث حسن صحيح . وهو بهذا يكون قد انتفع من قرضه ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم .
ثالثاً : أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحرمة شرعاً ، ومن ذلك :
1- المتاجرة في السندات ، وهي من الربا المحرم ، وقد نص على هذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم ( 60 ) في دورته السادسة .
2- المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز  " أي بين المختلطة وغيرها .
فاللهم جنبنا سائر المحرّمات والشبهات وارزقنا الإستغناء بالطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يارب العالمين . 

الخميس، 17 أكتوبر 2019

خطبة عن البركة وتحصيلها وسبب فقدانها

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بين يدي الساعة فأقام الله به الملة وشفى به العلّة ورفع به عن العبيد المسكنة والذلّة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار المصطفين الأخيار ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد والقرار أما بعد : 
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - عباد الله - فهي وصية الله للسابقين واللاحقين من الخلق أجمعين " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله مافي السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميدا " . 
- عباد الله - أمرٌ افتقدناه في بيوتنا ومسكَنِنَا ومأكَلِنا وأولادنا وأهلينا ، أمرٌ من ظفر به ووهبه الله له وُفّق أيما توفيق ، وكشف الله عنه كل بلاءٍ وضيق ، وحفظ الله له عُمره من التُرّهات وضياع الأوقات ، وقضى الوقت بما ينفع ، وكان تحصيله لكل شيء يطلبه مضموناً - بإذن ربه - وسهّل الله له كل عائق في دربه . 
وتكاثر له الخير في كل أطوار حياته كلّها ، وسعد به الناس وأسعد الناس حضوره وكتب الله له القبول بين عباده وجعل له ودّا وزاده رُشداً ومدّ له من الخير مدّا ، وذلك الأمر يطلب منك بذل السبب لتحقيقه ، ولعل التوفيقَ يكون رفيقَك فيما ترغب وتطلب وله تنصب ، ذلك الأمر هو : " البركة " وهو مصطلحٌ شرعي يُطلق على مقصودٍ من مكان أو شخص أو غير ذلك ويكون فيه أو ذاته تزايد وتكاثر للخير اللامحدود فمن الأمكنة على سبيل المثال : " البيت الحرام بمكة " يقول تعالى : " إن أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين " ومن الأشخاص أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام قال سبحانه : " وباركنا عليه وعلى اسحاق ومن ذريتهما محسنٌ وظالم لنفسه مبين " .  
وكان نبينا محمدّ صلى الله عليه وسلم مباركاً منذ ولادته إلى فراقه الدنيا وكان بركة على أمته في كل شيء ولو استقصينا ذلك لطال بنا المقام ولكن يكفينا في ذلك قول الشاعر حينا قال : 
وأبيضَ يُستسقى الغمام بوجهه * ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل 
ومعنى ثِمال اليتامى : أي ملجأهم وملاذهم بعد الله ، وأن الله يعصم ببركته الأرامل من الفقر والضياع بعد موت أزواجهن . 

أيها المسلمون : ماالذي أفقدنا البركة في أعمارنا وسعينا وأولادنا في هذه الحياة ؟ 
ما الذي جعلنا في روتينٍ يومي لسنا نلمس البركة فينا ولا في كل مانتعايش معه حولنا ، إن من أعظم الأسباب التي تمحو البركة من حياتنا وأهلينا هو عدم تحصيل التقوى والإيمان في شؤون حياتنا كلّها وهذا سبب ركيز يستهين به الناس وأوقع أكثرهم في نزع البركة من حياتهم ، وفي ذلك يقول الحق تبارك : ( ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . 
ومن الأسباب : الجهل وقلة العلم فالعلم على العبد في معاشه ومعاده ولذا كان حفظ القرآن والعمل به بركة على العبد عموماًُ في دينه ودنياه :
( كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبرّوا آيته وليتذكر أولوا الألباب )  وقال صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة : " إن أخذها بركة وتركها حسرة ولاتستطيعها البطلة - وهم السحرة " والقرآن كلّه بركة لمن أخذ به وعلى البيت الذي يُقرأُ فيه بالجملة . 
ومن الأسباب - ياعباد الله - أيضاً اقتراف الذنوب وعدم المبالاة بها وهي سبب للحرمان من الرزق والخير قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه ) رواه ابن ماجه .
ومن الأسباب أيضاً : عدم نفع الناس وذلك أن الناس يملكون الدعاء لمن ينفعهم ويُحسن إليهم وهذا أمرٌ وسببٌ من أسباب البركة وذلك أمرٌ يجده من يسلك هذا المسلك من المسلمين فما أعظم اجر نفع الناس عند الله ولكن أكثر الناس لايعلمون يقول صلى الله عليه وسلم : " ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليّ من أعتكف في المسجد شهرا " - أي مسجد المدينة - وفي رواية " في مسجدي هذا شهرا " 
ومن الأسباب التي تجلب البركة : كثرة الدعاء فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء : " إذا نُكثر " قال : " الله أكثر " أي يُعطي أكثر ويهب الكثير . 

ومن الأسباب : ترك مصاحبة الأخيار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بركة على أصحابة وكذلك الصالحون من أمة محمد الأمثلُ فالأمثل ولذلك ورد في الحديث في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيُقال فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : نعم فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس فيغزو فئامٌ من الناس فيقال : فيكم من صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون نعم فيفتح لهم ، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيُقال فيكم من صاحب من صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم " وكذلك يفعل الرجل الصالح فهو بركة على قومه وضدّ ذلك رجل السوء فهو شؤم على قومه ولذلك ورد في السنة أن موسى عليه السلام استسقى ربه بسبب قحط أصابهم فمنعهم الله الغيث بسبب رجلٍ يبارز الله بالمعاصي أربعين سنة فلما تاب واستغفر قبل الله توبته وكان بركة على قومه ، وليس ضرر القرين على قرينه بنزع البركة فقط ، بل بورود الجحيم وقد ورد في كتاب الله ماصنع القرين بقرينه حتى تمنى أن يكون مابينه وبينه بُعد المشرقين قال جل جلاله : ( حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين ) ولكن مانفعه ذلك . 
ومن الأسباب - ياعباد الله  : الرضا بما قسم الله في شأن الأرزاق والقناعة في ذلك ففي الحديث : " إن الله يبتلي عبده بما أعطاه ، فمن رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه ووسّعه ، ومن لم يرضَ لم يبارك له فيه " . 
ومن أعظم الأسباب - معشر الإخوة ترك العدل وغيابه في عالمنا وحياتنا فالعدل بركة على المجتمع كله رئيساً كان أو مرؤوساً راعياً كان أو رعيّة وهو القسط المأمور به في كتاب الله من كل فرد في أمة محمد عليه الصلاة والسلام قال الحق تبارك وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . . ) ولذا عندما ينزل عيسى عليه السلام ويخرج المهدي يملأون الدنيا قسطاً وعدلاً والنتيجة أن تأكل العِصابة - وهم مجموع الرجال - من الرمانة الواحدة ، واللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، وفي مسند الإمام أحمد أنه وُجد في بعض خزائن بني أُميّة صُرّة فيه حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها " هذا كان ينبت في زمن العدل " . 
وهذا كلّه من بركة العدل والقيام بالقسط فهل استشعرنا ذلك 
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

================ الخطبة الثانية ================= 
الحمدلله حمد الشاكرين وإله المنيبين وخالق الخلق أجمعين وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه البررة الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من أسباب حصول البركة أخذ المال بسخاوة نفس ففي حديث حكيم بن حزام المخرّج في الصحيحين أنه قال  : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : " ياحكيم إن هذا المال خضِرَةٌ حُلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس ٍبورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع " وكذلك أخذه من طريق كسب مباح ولذا ورد في الحديث في صحيح مسلم : " فمن يأخذ مالاً بحقّه يُبارك له فيه ، ومن يأخذ مالاً بغير حقه لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع " والصدق في المعاملة أيضاً من أسباب البركة قال صلى الله عليه وسلم :
" البيّعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهم في بيعهما وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما . 
ومن أعظم الأسباب لحصول البركة الصدقة ، فالصدقة خيرٌ للعبد من إمساك المال وجمعه " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه وهو خير الرازقين " . 
ومن أسبابها أيضاً : البكور في قضاء الحاجات فقد دعا الني صلى الله عليه وسلم لأمته في وقت البكور حيث قال : " اللهم بارك لأمتي في بكورها " . 
قال العجلوني رحمه الله : " العقل بكرة النهار يكون أكمل منه وأحسن تصرفاً منه في آخره ، ومن ثم ينبغي التبكير في طلب العلم وغيره من المَهمّات "  . 
ومنها في شأن الخُلطة والمعاشرة أيضاً : اجتماع الناس على الطعام ، فقد شكا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنهم يأكلون ولا يشبعون ، فقال :
" فلعلكم تفترقون ، قالوا : نعم ، قال : " فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يُبارك لكم فيه "  رواه أبو داوود وهو حديث صحيح . 
ومن أسبابها : ترك لعق الأصابع أيضاً ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه فإنه لايدري في أيتهن البركة " رواه الترمذي وروى مثله مسلم في صحيحه .
ومنها أيضاً : الإستخارة في الأمور فقد ورد في داء الإستخارة بعد أن يُصلي ركعتين أنه يقول : " اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويُسمّي حاجته - خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدُره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه " وهذا الشاهد  . 
فاللهم بارك لنا في عيشنا وولدنا وأهلينا وذرارينا وأوقاتنا وأعمالنا ياذا الجلال والإكرام . . 
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . . 


الاثنين، 22 يوليو 2019

خطبة عن مااتفقت عليه الشرائع في الأحكام والحلال والحرام

الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله ،وسبحان الذي خلق كل شيء وقدره وأولاه ومن كل خيرٍ أعطاه وسخر كل مخلوق وهداه والحمدلله  على كل شيء أسداه ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة وعلى من تبعه بإحسانٍ وعلينا معهم كثير الصلوات وأزكى التحيات مادامت الأرض والسماوات  أما بعد : 
فاتقوا الله تعالى ياعباد الله واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل مُحدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار - عباد الله : 
إن في دين الله ثوابتٌ اتفقت عليها الشرائع وقامت عليها كل الأديان السماوية وما كان من ذلك يجب العناية به أكثر من غيره من الأوامر والزواجر لأن هذه الثوابت والأصول التي أتت بها الشرائع أسسٌ لايُتنازل عنها بأي حالٍ وتكرراها وفرضيتها من الله على أنبياءه المرسلين دليلٌ على أن العقوبة عليه ليست كالعقوبة على غيره مما شرعه الله واختص به أمة دون أمة ونبياً دون نبي ولعلنا في هذه الخطبة نبين شيئاً منها لعل البصائر بها تُعنى والقلوبَ بها تهتمّ . 
عباد الله : إن أول ماأمر به الرسل جميعاً عبادة الله تعالى واجتباب سائر المعبودات الأخر والطواغيت والأصنان فالمعبود واحد لايتعدد لافي ألوهيته ولا في ربوبيته يقول سبحانه : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) 
وحذر سائر الأمم من الشرك وأعلم العالم أن ذلك محبطٌ للعمل كله فيقول الحق تبارك وتعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) فهذه عقيدةٌ لنا وللأمم قبلنا إلى أن تقوم الساعة ولا مُشاحة في ذلك ومن الأصول التي اتفقت عليها الشرائع : بر الوالدين وتحريم العقوق لهما وقد ورد الأمر بذلك في كل الشرائع والفطرة تقتضي ذلك وتأمر به فالإنسان عموماً مدينٌ لوالديه بالكثير ومايُضله عن القيام بحقهما إلا الهوى والشهوة ولهذا تجد من بعض الكفار من يبرّ والديه براً تعجب منه فهل لنا في ذلك عبرة - معشر المسلمين - علماً أن هذا ينفعه في الدنيا ولا ينفعه في الآخرة فتُعجل له طيباته ويُدفع عنه شرور كثيرة في الدنيا بسبب ذلك البرّ إحساناً له على صنيعه وعنايته بوالديه . 
ومن الأصول التي اتفقت عليها الشرائع ياعباد الله بقية أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج يقول الله جلا وعلا في الصلاة والزكاة عن بني إسرائيل :
(( ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم - أي نصرتموهم - وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) : ولهذا يقول الله تبارك وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) فشريعة الصيام قديمة جداً وليست فريضة مُحدثة وكذلك فريضة الحج لبيت الله الحرام فهي شريعة قديمة من شرائع الله المحكمة فقد أورد مسلم بن الحجاج في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق ، فقال :أي واد ٍهذا ؟ فقالوا : هذا وادي الأزرق قال : كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية - أي صوتُ مرتقع - ثم أتى - أي النبي صلى الله عليه وسلم - على ثنية هرشى ، قال : كأني أنظر إلى يونس بن متّى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة ، عليه جُبّة من صوف ، خِطام ناقته خُلبة وهو يلبي " والخُلبة هي الليف ، بل قال من أهل العلم أن البيت حُجه الأنبياء قبل إبراهيم ولذا ورد عن ابن باز في بعض فتاويه في الحج قال : " أما الحج فقد جاءت أحاديث تدل على أنه حُجّ - أي البيت - قبل إبراهيم ، أنه حجه هود وحجّه صالح " عليهما السلام . 
وذ ُكر عن بيت الله الحرام أنه في حقبة زمنية تلاشى بنيانه واندثر ثم أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيه من جديد ويرفع قواعده بعد اندثار كثير منه وفي هذا يقول الحق سبحانه : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنك أنت السميع العليم ) وكل ماسبق من أركان الإسلام ورد ذكره في التوراة والإنجيل والقرآن   
عباد الله : إن من الثوابت التي ذكرت أيضاً  الوصايا العشر التي ذكرت في القرآن وبعضها ورد بصيغة أخرى في التوراة والإنجيل فذلك عهدٌ قديم على الأمم من بني اسرائيل والروم الذين هم من ذرية العيص بن اسحاق بن ابراهيم عليه السلام وأتباعهم من الأمم وهي أي هذه الوصايا منارات لسبيل الله تنير درب السالكين وقد ذكرت كاملة متتابعة في سورة الأنعام قال جل جلاله : ( قل تعالوا أتلُ ماحرم ربكم عليكم أن لاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحنُ نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلُغ أشدّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لانُكلف نفساً إلا وسعها وإذا قُلتم فاعدلوا ولوا كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون ) . 
هذه الوصايا وردت في مايُسمى بسفر الخروج وسفر التثنية من كتاب الله التوراة اللذي يسمونه ( العهد القديم ) التي طالته أيدي التحريف ممن اشترى بآيات اللهه ثمناً قليلاً كما هي عادة بعض اليهود وكذلك ورد فيما يسمونه بالعهد الجديد الذي هو الإنجيل وردت متفرقة بين أناجيلهم الأربعة : متّى ومرقس ولوقا ويوحناّ . 
عباد الله : إن من اتفقت الشرائع على تحريمه شرب الخمر الذي يؤدي لارتكاب الفواحش واقتراف الجرائم فقد ورد تحريم في شرعنا بقوله : ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تُفلحون ) وكفى بالقرآن دليلا وورد ذلك - للعلم - في التوراة والإنجيل ففي التوارة في سفر الأمثال : " لمن الويل ؟ لمن الشقاوة ؟ لمن المخاصمات ؟ لمن الكرب ؟ لمن الجروح بلا سبب ؟ لمن ازمهرار العينين للذين يدمنون الخمر "  وفي دين النصارى انشقت بعض الكنائس فبعضها يُجيز شربها - نعوذ بالله - وبعضها يُحرمه وهذا من الأدلة التي تُشير أن الأنجيل طاله التحريف أكثر من التوراة بمراحل وأنها مضطربة فيما بينها فإذا حُرمت في التوراة وهو قبل الإنجيل بحوالي ألفي سنة فكيف لايرد تحريمه في الإنجيل خصوصا ًأن الخمر أعظم محرمٍ مشروب في جميع العصور والأزمنة ومثله أيضاً المخدرات فقد ورد في شأنها مثل الخمر لأنها تُذهب العقل . 
عباد الله : ومما أمر به أيضاً غض البصر في كل شريعة لأن البصر بابٌ للقلب الذي يقود للزنا الحقيقي  ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لامحالة ، فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمنّى وتشتهي والفرج يُصدق ذلك كله أو يُكذبه " رواه الشيخان . 
وقد ورد في إنجيل متىّ : " إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيَها فقد زنى بها في قلبه " . 
وهذا كلّه يدلل على أن الأديان السماوية أتت بما يوافق العقل والفطرة والدين السوي والحنيفية السالمة من عبادة الأوثان كافة وإذا خالفهما فاعلموا أنه بسبب : إما أن يكون النص قد طالته يد التحريف أو أنه حُذف من الكتب السماوية من بعض الخونة في الماضي ممن اشترى بعهد الله حظاً من الدُنيا أو أنه نُسخ في حينه لمصلحة يعلمها الله ، فاللهم ارزقنا فهم كتابك واتباع سنةِ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا فإن كان صواباً فمن الله وإن كان سوى ذلك غمن نفسي والشيطان وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه كان غفارا . 

================ الخطبة الثانية ================
الحمدلله أحكم الحاكمين ورب الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بالحق المبين فأنار الدرب للسالكين وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليما مزيداً أما بعـــــــــــد : 
أيها المسلمون : إن مما ورد في الشرائع الماضية تطبيق الحدود من قِبل الوالي حين انتفاء الشبهة وحصول البينة وهذا يدل على أن قضية تطبيق الحدود كافة أمان للمجتمع المسلم في الماضي والعصر الحديث من انتشار الشرّ والجريمة في المجتمع وكما قال صلى الله عليه وسلم : " إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة " رواه النسائي في السنن الصغرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . 
ولنا في ذلك قصة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في موطأ الإمام مالك من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : " جاءت اليهود إلى رسول صلى الله عليه وسلم فذكروا أن منهم رجلاً وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسام : " ماتجدون في التوراة في شأن الرجم " فقالوا : نفضحهم ويُجلدون - وهم أهل كذب وافتراء - فقال عبدالله بن سلام : " كذبتم ، إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة " فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، قم قرأ ماقبلها وما بعدها ، فقال له عبدالله بن سلام : " ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يامحمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما " فلا حاجة بعد ذلك لإيراد أي نص من كُتبهم للدلالة على ذلك . 
وفي شأن النساء فإن من الثوابت التي أمرت بها المرأة في الإسلام أولاً وفي بقية الأديان السماوية الأخرى مما يدل على تجذّر تلك الشعيرة العظيمة التي نجد لها معارضين حتى من بني جلدتنا هي شعيرة ( الحجاب الشرعي ) والذي يجد حرباً من أعداء الإسلام بل ومن أعداء الديانات السماوية كافة ، فلا اليهود يطبقون مافي التوراة مما ورد موفقته في ديننا ولا النصارى أناجيلهم ولا بعض المسلمين من مرضى القلوب الذين يدعون لتحرير المرأة ويُنفذون مخططاً غربياً ليبرالياً مهينا ولا يخفاكم ماورد في كتاب الله في شأن الحجاب وأمر الله به ومما ورد في رسالة بولس المقدسة عند النصارى يقول فيها عن النساء : " وأما كل امرأة تُصلي أو تتنأ ورأسها غير مُغطّى فتشين رأسها لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه ، إذ المرأة إن كانت لاتتغطّى فليُقص شعرها " وفي رسالة تيموثاوس أيضاً عندهم قال فيها :
" النساء يزيّن لباسهن بلباس الحشمة لابضفائر من ذهب أو لآلئ أو ثياب كثيرة الثمن " وانظروا إلى ماقال بعض حاخامات اليهود عن الحجاب فيقول (مناحم براير) في كتاب أسماه( المرأة اليهودية في الأدب الحاخامي )  : " إن القانون الحاخامي اليهودي يمنع إلقاء الأدعية أو الصلوات في وجود امرأة متزوجة حاسرة الرأس وملعونٌ الرجل الذي يترك شعر زوجته مكشوفا ً" . وكل ذلك يُتخذ حجة ضد كل شخص ممن ينتسب للأديان السماوية من اليهود والنصارى الذي ضلّوا ضلالاً بعيدا وكفروا وأصروا واستكبروا استكبارا ، فاللهم ارزقنا لزومَ صراطك المستقيم وثبتنا عليه واجعلنا من الدعاة إليه إلى يوم المعاد ياكريم ياجواد . . هذا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة والكرامة القائمة محمد بن عبدالله . . .         









الاثنين، 17 يونيو 2019

خطبة عن الحفاظ عى النعمة وأثر ذلك

الحمدلله الذي امتن على عباده بالنعم وصرف عنهم الشرور والنِقم ، أحمده وهو الجواد الحكم وأثني عليه وهو أهل الثناء والكرم وأصلي وأسلم على المبعوث بالقول البيّن وجوامع الكلم وعلى آله وصحبه مصابيح الظُلم وأهل المناقب والقيم وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ومن سلك سبيل المؤمنين أما بعد :

فاتقوا الله عباد الله فبالتقوى يُنال المقصود ويستردّ كل خير مفقود ويرضى رب الوجود ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ) ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لايحتسب . .) ثمّ اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتُها وكلّ محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : نعم الله علينا عظيمة كثيرةٌ تزداد حيناً وتقلّ حيناً آخر والفضل كلّه لله في ذلك ، يقول الحقّ تبارك وتعالى : [ وإن تعدوا نعمة الله لاتُحصوها إن الله لغفور رحين  ] وقال سبحانه : [ وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الإنسان لظلومٌ كفّار ] .
فانظر كيف نسب لنفسه المغفرة والرحمة والإنعام بالتفضل على بني البشر بمغفرة ذنوبهم وسترها ورحمتهم وإدرار الرزق لهم ونسب للإنسان الكفر بالنعمة والظلم والطغيان لأنه في الغالب كذلك إلا من رحم الله وتأمل كيف أفرد الظلم وأتى بصيغة المبالغة التي تدل على كثرة الفعل في قوله " كفّار " لأن الإنسان يُكثر الكفر بالنعمة وسريعاً ماينساها خلا عباد الله المؤمنين الذين يديمون الشكر والثناء والحمد لله في العسر واليسر وهذه وقفة مع هذه الآية العظيمة التي فيها يقول ربنا جلا جلاله :

(( ألم تروا أن الله سخر لكم مافي السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يُجادل في الله بغير ولا هدىً ولا كتاب منير )) .

أخي المبارك : تأمل قول الله تعالى : " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " كيف أن الله استخدم كلمة " أسبغ " التي تدل على الكمال والتمام فنعم الله كثيرة وكبيرة ومتعددة ووافرة منها الظاهر الذي يراه الإنسان ويسمعه ويحسه ويلمسه ومن النعم ماهو باطن لايعرفه ابن آدم إلا إذا فقده وعدِمه وذُكّر به وهذا من فضل الله ورحمة أن لايُحاسب الإنسان على مجموع نعمه كلها بل على الظاهر البيّن  مع حلمه أيضاً في الظاهر منها فاللهم لانُحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك .

عباد الله : إن من أعظم نعم الله الظاهرة التي تستوجب الشكر السمع والبصر والحياة والهداية والعلم والرزق بما في ذلك توافر المال والأزواج والأولاد والليل والنهار والمسكن والملبس والمركب وفي ذلك كلّه يقول المُنعم الرحيم والرب الكريم : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ويقول في الهداية : ( أومن كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثلُه في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُين للكافرين ماكانوا يعملون ) وقال في العلم : ( ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون ) وقال في الرزق : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركاءكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يُشركون ) وقال في الأزواج والأولاد : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) وقال في نعمة الليل والنهار : ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من رحمته ولعلكم تشكرون ) وقال في المساكن والبيوت : ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ) وقال في الملبس والرداء : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يُواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذّكرون ) وقال في المراكب القديمة والحديثة : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالاتعلمون ) فتأمل كيف قال سبحانه ( ويخلق مالاتعلمون ) فهي شاملة لجميع المراكب الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات وباخرات صغيرها وكبيرها وقديمها وحديثها وما فرّط سبحانه في الكتاب من شيء جل جلاله وتقدست اقواله وعظـُم في الناس نواله وعطاياه وهباته فهل من شكرٍ وحمد وثناءٍ على الله بما هو أهله ؟ 

فالحمد لله حمداً لو حمدناهُ 

بدهرنا كلّه ماقد وفينـــاهُ 
حمداً يُضاهي كثيراً من عطاياهُ
مدى الحياةِ لذي الأفضال والمنّة 
فنحمد الرب أولانا وأعطانا 
ونحمد الرب أعلانا وأسدانا 
ونحمد الرب إيماناً وإحسانا
ونسأل الله رضواناً مع الجنـــــــة 

عباد الله : إن مما يتوجب على العباد المحافظة على مثل هذه النعم العظيمة التي تزيد بالشكر وتقل بالتبذير والإسراف يقول سبحانه : ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتُم إن عذابي لشديد ) وحذر في المُقابل - ياعباد الله - من الإسراف والتبذير الذي يجرّ إلى النقص في الأرزاق والنعم فقال موجهاً نبيه وأمته ( وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) وتأمل كيف قرن حق القريب الذي اعتاد الناس عليه في إكرامه بالولائم المناسبة مع البذخ من بعضهم في الولائم التي يُقدمونها بغير حق وهي أكثر من اللازم المتوجّب الذي أدخل البعض في دائرة الإسراف والتبذير والذين استحقوا بالتالي أخوة الشيطان لاولاية الرحمن بفعلهم المشين والمقصود من ذلك كلّه أن تُستصحب خشية الله في تقدير تلك الولائم المُقدّمة للضيوف عموماً بغير إسراف ولا زيادة فاحشة ولا تبذير .

عباد الله : من قُدّر عليه أن ابتُلي بمثل ذلك حين إعداد تلك الولائم  فعليه أن يحذر من إلقاء تلك الأطعمة في المزابل القريبة أو البعيدة وعليه أن يتصل بجمعية حفظ النعمة أو جمعية إطعام والمنتشرة في مناطق المملكة كلها بل وفي كل مدينة  وليبادر لذلك بلا تردد خصوصاً أن تحركهم لتلقي مثل هذه الأنعام وهذه الأطعمة فوري ولله الحمد فكل ماعليك أن تحفظ رقمهم في جوالك إذا كنت عاجزاً عن تهيئة مثل هذه الأطعمة وتغليفها لإعطائها للفقراء والمحتاجين والمعوزين والذي بعضنا يجهل الكثير منهم وهم حولنا لمن بحث عنهم .

فلتنعاون جميعاً على البر والتقوى في هذا الشأن وهو من شكر الله المنُعم الكريم الجواد على أن وهبنا وفضلنا وأكرمنا ومن أراد أن يعرفَ حقاً نعمة الله عليه فليسأل كبار السنّ ممن مرّ عليهم سنوات المجاعة والحاجة يُحدثونك بأمورٍ من هولها لاتُصدقها العقول لولا أن المتحدّث من أهل الثقة والديانة وممن لامصلحة له في الكذب بل كان بعضُهم يتحدث وهو يبكي وينشج من عظيم نعمة الله علينا التي ماعرفها أولئك الآباء والأجداد في الماضي فهل من مُعتبر وشاكر ومُدّكر فاللهم ارزقنا شكر نعمك واجعلنا ممن يستعملها في طاعتك ونعوذ بك اللهم من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم فمن استغفره رزقه وأعطاه ومن أعرض عنه أضلله وأغواه ومن توكل عليه كفاه .

=========== الخطبة الثانية ==========

الحمدلله الذي أعطى وهدى ورزق وكفى وأخرج المرعى فجعله غُثاءاً أحوى والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المُجتبى وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنُهى وعلى من تبعهم بإحسان وعلينا معهم إلى يوم الفصل والقضاء وبعد :
أيها المؤمنون :
إن نعم الله جل جلاله إذا لم تُسخّر في طاعة الله ومرضاته وفي أمر الآخرة فإنها ستكون وبالاً على صاحبها وحسرة وندامة يوم القيامة فليحذر العباد من استعمالها في معصيته أو من ترك الشكر عليها فإن ذلك أبعد للعبد من الله وأبعد من الرحمة وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زُلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ) مع كون ذلك المال وتلك الأرزاق معرّضة للنقص والزيادة والإرتفاع والإنخفاض فليست على وتيرة واحدة فتجد من الناس من تجري عليه خسارة في ماله فيكون بين عشية وضحاها من المُفلسين ، بخلاف رزق الآخرة الذي لاينقطع أبداً وليس يعتريه نقص بل يزداد ويتكاثر ويتضاعف مضاعفة لايعلم مداها إلا الله وهذا يجعل العبد يرتبط بمقاييس الآخرة ويُعلق قلبه بما عند الله من كرامة وثواب ويبذل في ذلك الأسباب وفي تلك التجارة الرابحة يقول ربنا سبحانه : ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّا ًوعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزدَهم من فضله غنه غفورٌ شكور ) .
عباد الله : ومن ابتُلي بنقص في رزقه بسبب عرفه أو لم يعرفه فليلزم الصبر وليتذكر أن من العباد ماتحصّل على عشر ماوجد وعليه أن يلزم القناعة ويسعى لطلب الآخرة في كل حال فإنها هي الدار الحقيقة للعبد وقد روى ابن ماجة في سننه عن محمد بن اسماعيل بن سمُرة قال حدثنا وكيع عن عبدالله بن عمرو بن مرّة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : " لمّا نزل في الفضة والذهب مانزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال عمر رضي الله عنه : " فأنا أعلم لكم ذلك " فأوضع على بعيره فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في إثره فقال يارسول الله : أي المال نتخذ ؟ فقال [[ ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناًَ ذاكراً وزوجة مؤمنة تُعين أحدكم على أمر الآخرة ]] .

عباد الله : فاطلبوا في ذلك العون من الله على شكر النعم فبعون الله يدوم الشكر والذكر والزموا الدعاء الوارد في ذلك عقب الصلوات المفروضة فإنه سبب للتوفيق للشكر وأداء ماأوجب الله على العبد وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين قال له : ( والله إني لأحبك أوصيك يامُعاذ لاتدعنّ دُبر كل صلاة تقول : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ) وفي الدعاء الآخر أيضاً كما عند الإمام الترمذي من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : ( ربّ اجعلني لك شكّارا ًلك ذكّارا ً لك رهّابا ًلك مِطواعاً لك مُخبتاً إليك أواهاً مُنيبا ) وخير الأدعية ماكان من سنة المُصطفى عليه الصلاة والسلام لكونه أجمع وأحوى وأكمل وأهدى ، ثمّ تذكّروا أنكم مسؤولون عن ذلك النعيم الذي تعيشونه يقول سبحانه في محكم التنزيل : ( ثم لتُسألن يومئذٍ عن النعيم ) فأستعينوا بها على مايرضي الله ويُقرب منه فما فاز إلا الشاكرون الصابرون جعلنا الله وإياكم منهم .

هذا وصلوا وسلموا على رسول الهدى ونبي الرحمة من أرسله الله للأمة وكشف عنهم الغمة فاللهم احشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة لانظمأ بعدها أبداً يارب العالمين ، اللهم أعنا ولا تعن علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم ولّ علينا خيارنا واكفنا شرّ شرارنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداه واجعل عمله في رضاك وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الحق والخير وتعينه عليه ياذا الجلال والإكرام . 
اللهم كن لجنودنا البواسل في أرض اليمن وعلى الثغور ياحي ياقيوم ، اللهم تبل شهدائهم وارحم موتاهم وعافِ مُبتلاهم وكن للمجاهدين في سبيلك في أرض الشام والعراق ياحي ياقيوم وانصرهم نصراً من عندك تغنيهم به عن نصر من سواك ومكّن لهم في الأرض يارب العالمين .  

الخميس، 13 يونيو 2019

خطبة عن القسط والعدل المأمور به .

الحمدلله أحكم الحاكمين وأعدلهم وأقسط المقسطين ورب الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين حكم فعدل ودل على النور المبين وحثّ على سلوك درب الصالحين وعلى آله الغرّ الميامين ومن تبعهم بإحسان وعلينا معهم إلى يوم الدين أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى يأمر بكل رشدٍ وخير وينهى عن كل إثمٍ وشر ويُقرّب البرّ من ربه ويبعدّ الفاجر من مولاه الذي توّلاه واعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والزموا جماعة المسلمين فإن الله يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . 
عباد الله : يقول الحق تبارك وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولوا على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) وهذه الآية تدل على قاعدة من الثوابت العظيمة في هذا الدين ومن أصول اتباع الشريعة والقيام بها في جوانب الحياة المختلفة على صعيد النفس ودائرة الأسرة وعالم المجتمع من حولنا فلا بدّ أن يكون الرجل من أهل القسط والعدالة ومن مروّجي العدل والآمرين به في كل حين وذلك حيث أن الله تعالى استخدم صيغة المبالغة في قوله ( قوّامين ) أي قائمين على الدوام وذلك يقتضي أن يُراعي العبد القسط والعدل في أحواله كلّها ، بل وفي قرارة نفسه التي منها تصدر النية ويكون مقاصد العمل في العبادات والمعاملات على وجه العمموم . 
وأصل هذه الآية نزلت عامة بسبب خاص وهو النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه غني وفقير فكان ضِلَعه مع الفقير - أي كان يميل مع الفقير على الغني - وكان يرى عليه الصلاة والسلام أن الفقير لايظلم الغني كما أورد ذلك ابن جرير في تفسيره " جامع البيان " فأمره الله نبيه وغيره من المؤمنين أن يعدلوا مع الفقراء والأغنياء وكأن الحقّ يُشير إلى أن ظلم الفقير للغني وارد وليس كما يظن الناس أن الغني هو الذي يظلم الفقير دائماً ، وعقّب على ذلك ابن جير بقوله : " وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه لعباده المؤمنين أن يفعلوا مافعله الذين عذروا بني أًبيرق - وهم فخذٌ من الأنصار - في سرقتهم ماسرقوا وخيانتهم ماخانوا من ذكر ماقيل عند رسول الله وشهادتهم لهم عنده بالصلاح فقال لهم : " إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه فقولوا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآباءكم وأمهاتكم وأقربائكم ولا يحملنّكم غنى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحِمُه منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها "  . 
عباد الله : إن العدل من أعظم القيَم التي يتحلى بها المسلم الصادق والذي لايصلح الشأن العام بدونه وعكسه الظلم الذي هو مقوّض للممالك ومسقط للدول ولا يصلح أمر كل أمة إلا بالعدل والقسط ونشره والأمر به والقيام بالواجب وخصوصاً من أصحاب المناصب في أي قطاع من القطاعات ، فهذا واجب متحتم مع القريب والبعيد والصديق والعدو غير المحارب فلنتق الله تعالى لنتأمل تلك الآية المشابهة للآية التي ذكرنا وهي قوله تعالى في سورة المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون )  فالقسط يكون عاماً شاملاً حتى مع من تكرههم وتبغضهم وهذا من أعظم صفات المؤمنين ولا يقدر عليه إلا من وفقه الله وسدّده وأعانه وقرّبه لتقواه - سبحانه - وأبعده من شهوته وهواه ولهذا قال : ( ولا يجرمنكم شنئان قوم ) أي لايحملكم بغض وكراهية قوم ( على أن لاتعدلوا ) أي على ترك العدل وارتكاب الظلم معهم ، ثم قال بعدها : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي أبعد عن الهوى وأقرب للإلتزام بما أمر الله تعالى ونبذ ٌ لشهوات النفس وإخراجٌ لدنس الباطل من النفوس . 
أيها المؤمنون : والأمر بالقسط تعدّى ليشمل حتى الكافر ولو كان الناس في زمن شدّة فإن الله تعالى أنزل قولَه سبحانه : ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحب المقسطين ) أنزل تلك الآية والناس في عهد النبي في زمن حرب ووقت شدّة وابتلاء من المشركين ، لكيلا يُحارَب غير المُحارب ولا يُعتدى على أحدٍ بدون حقٍ ظُلماً وعدوانا بل أمر سبحانه في معرض الآية بالعدل والبر والإحسان وفي المُقابل ينهى الله عن الإحسان إلى المحاربين من الكفرة من أهل الكتاب أن يُحسن إليهم لأن ذلك ذلّ للإسلام وأهله ومناقضة لعلاقة الولاء والبراء المأمور بها قال جل جلاله ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) 
عباد الله : إن من القوامة بالقسط نبذ العصبية التي تجرّ للظلم فلا يجتمع العدل والعصبية في شخصٍ أبداً فلابد إن استقر العدل في النفس أن يُخرجها من قلبه أو تكون الأخرى فتخرجُ العدل والقسط من النفوس والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " ومن دعا بدعوى الجاهليه فهو من جُثى جهنم " قالوا : يارسول الله وإن صلى وصام ؟ قال : " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم " .
ومن القوامة بالقسط ياعباد الله : عدم ظلم من كان تحت اليد من عامل أو خادمة أو سائق او غير ذلك خصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إخوانكم خولُكم - أي مخوّلين ومسخرين للعمل تحت أيديكم - جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تُكلفوهم من العمل مايغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " رواه الشيخان البخاري ومُسلم . 
أيها المؤمنون : إن مما يلزم لإقامة القسط والعدل ونشر قيمة الإنصاف أن يُناصح كل من له ولاية في أمر يخصّ عامة الناس عموماً لأن السكوت على الباطل إعانة عليه والتخاذل عن الحق يُسوّد الباطل وينشره في نفوس الناس فيستمرونه وينشأؤون عليه ولذا كان حقاً علينا جميعاً أن نسعى للتصدي لإنتشار الفساد في البلاد سواءً كان ذلك في القيم والمبادئ أو كان ذلك في الولايات العامة أو الخاصة فإن ذلك أمرٌ يجب أولاً على العلماء وأهل الحلّ والعقد وعلى من يستطيعُه من عامة الناس إبراءً للذمة فاللهم إنا نسألك أن تحشرنا في زمرة المقسطين وأن تجعلنا من حزبك المفلحين وأوليائك المتقين يارب العالمين ، هذا واستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم . 
============ الخطبة الثانية ============

الحمدلله حكم فعدل وأعطى فأجزل أحمده وهوالحكيم العدل وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أهل المكارم والفضل وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الفصل أما بعد : 
عباد الله : إن مما أعدّه لعباده المُقسطين العادلين في الآخرة منزلةٌ يغبطهم عليها  النبيون والشهداء يوم القيامة وذلك أنه روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المُقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه وهذا الحديث مُحفّز على عمل الآخرة ويبعث في النفس الهمة والعمل الحثيث لنيل تلك الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية عند الله ، فلا عجب أن يكون ذلك لأن أهل القسط والعدل محبوبون من الله ومن أهل السماء ومن أهل الأرض من الناس والخلائق أجمعين وأهل الظلم واستلاب الحقوق مبغوضون من الله ومن ثمّ من أهل السماء والأرض فهل نتوقّى ذلك ، ولنظفر بمحبة الله أولاً التي من حازها حاز محبة بقية الخلائق كلهم استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب العبد دعا جبريل فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحببْه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ثم يوضع له القبول في الأرض " 
ولا شك أن من أسباب ذلك القسط واتباع ماأمر الله والتزامه وتتبّع أسباب محبة الرب الذي من أسمائه الودود والودّ من أرفع أنواع المحبة التي يكتبها الله لعباده المؤمنين الذي يعملون الصالحات ، ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا )   . 
عباد الله : إن مما ينبغي التنبيه عليه هو معرفة الفرق بين المُقسط والقاسط فالمقسطون هم العادلون والقاسطون هم الظالمون ، فإن الله تعالى قال في شأن المقسطين (( إن الله يحب المقسطين )) كررها بهذا اللفظ ثلاث مرات في سورة المائدة والحجرات والممتحنة للتأكيد ولزوم انتشار ضرورة القسط في المجتمع المسلم وأما القاسطون وهم الظالمون فإنه قال فيهم سبحانه في سورة الجن :
(( وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا )) . 
أيها المؤمنون : ضرورة القسط وانتشار العدل والإنصاف والمساواة في بلدنا أمان عند الله من ذهاب الممالك والدول وذلك يتجلى بإقامة الحدود وتطبيق شريعة الله وفي ذلك يقول الله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) وهذا في حقّ من استحل ذلك ولم يعمل به فجمع بين الخطيئتين والكبيرتين العظيمتين وأما من لم يستحل الحكم بغير ماأنزل الله ولكن لم يطبق ويحكم بما أنزل الله لهوىً في نفسه ولشهوة يتبعها أو مجاراة لأهل الهوى من مسؤول أو غيره فقد ظلم وفسق قال سبحانه : (( ومن لم يحكم بغير ماأنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) وقال جل وعلا : 
(( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )) ويستلزم ذلك تطبيق الحدود وعدم قبول الشفاعة فيها ، والشاهد في ذلك حديث المخزومية التي سرقت وأهمّ قريشً شأنها فقالوا : ومن يُكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا  : " ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتشفع في حدّ من حدود الله " ثم قام فاختطب - أي خطب خطبة - قال فيها : " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " رواه البخاري ومسلم . 
فلله درّ نبينا الذي أرسى العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع كلهم فقيرهم وغنيهم قويهم وضعيفهم، صغيرهم وكبيرهم ، فاللهم اهدنا سواء السبيل وأقمنا على صراطك المستقيم بالحق والدليل واشف منّا السقيم والعليل ياعليم ياجليل . 
هذا وصلو على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . 


الاثنين، 3 يونيو 2019

خطبة لعيد الفطر المبارك

الحمدلله الذي أتم علينا نعمة الصيام وهدانا للقيام بأركان الإسلام نحمده وهو القدوس السلام ، الكريم الجواد العلام الذي امتن على عباده بالنفحات وحطّ الأوزار والآثام ووفق عباده للإتمام وتفضل عليهم وهو أهل الأفضال والإتمام والصلاة والسلام على رسول الأنام الذي بلغ عن الله رسالاته بجوامع الكلام ونصح له في بريّاته بالقول البليغ التمام وعلى آله وصحبه ذوي المكانة والمقام ومن تبعهم بإحسان مادامت الشهور والأيام أما بعد :  
فاتقوا الله تعالى وكبروه ، واحمدوه على وافر النعم واشكروه ، واثنوا عليه الخير كله ولا تكفروه ، فالحمدلله حمداً يُضاهي عدد نعمه ويرضيه فالسعيد من على طاعته يحييه ، وعلى دينه يُقيمه ويُبقيه . .  الله أكبر الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله والله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . 
عباد الله : كنتم بالأمس تستقبلون شهر الصيام بحلته الذي فيه يُزين الله جنته واليوم تودعونه شاهداً على بعضكم بالحسنى وعلى بعضٍ بالتفريط والتقصيير فياسعادة من وُفق لاغتنامه ورُزق فيه الجدّ والإجتهاد وياخسارة وندامة من تهاون وضيّع وغلبه فيه النوم والسُهاد حين فاز غيره بالأجر والمثوبة والمراد ، فيفرح ذلك المُجتهد الصبور حين يُبعث أهل القبور وتصير لله الأمور وحين تنشر الصحائف ويقوم الأشهاد . . الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . 
عباد الله : إن أعظم مايتعبد به المتعبدون ويتنسك به أهل النُسك المشمّرون المحافظة على فريضة الله العظمى وهي الصلوات المكتوبة بفروضها الخمسة التي حثّ عليها ربنا في كتابه المجيد ووحيه القديم والجديد من نزول آدم إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام مروراً فيما بينهما من طول العهد وكثرة الأنبياء الذي نادوا بهذه الصلاة المفروضة ويكفي في ذلك قول ابراهيم عليه السلام حين عرف عظمة ومكانتها عند الله فقال يرجوا ويبتهل لربه : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دُعاء ) وقال جل جلاله يأمر نبينا وأمته بقوله : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) وبين أنها مؤقتة بقوله ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا ) فلا حظ في الإسلام ياعباد الله لمن ضيّع هذه الصلاة ولا تسقط صلاة الجماعة في المسجد عن رجل إلا من عذرٍ كخوفٍ أو مرض أو سفر . . الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بُكرة وأصيلا . . عباد الله : يغفل الكثير منّا عن أداء الزكاة بالجملة سواءٌ كانت مالاً نقدياً أو بهيمة أنعام ٍأو عُروض تجارة ، وما علم هذا المتغافل المتجاهل لهذه الشعيرة العظيمة من آثارٍ عليه وعلى ماله بسبب تهاونه ، فما يعلم هذا المؤجل أو المتهاون في إخراج الزكاة في وقتها أنه رُبما أتته مصيبة في دنياه فاجتاحت ماله كلّه بسبب تهاونه وسخط الله عليه فاحذر كل الحذر من تأخير إخراج الزكاة عن وقتها الذي حددته لنفسك سواءٌ كان ذلك في رمضان أو في غيره ، لأن ذلك يجرك إلى التفريط والإهمال ومن ثم الفتنة والمصيبة والعذاب سواء كان ذلك في الدنيا والآخرة وتذكر نوعاً من العذاب ينتظر من لم يؤد زكاة ماله حين قال صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له يوم القيامة شُجاعاً أقرع - أي ثعباناً عظيماً - له زبيبتان يُطوّقه - أي يخنقه - يوم القيامة ثمّ يأخذ بلهزمتيه أي شدقيه فيقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا عليه الصلاة قوله تعالى : ( ولا تحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيُطوّفون مابخلوا به يوم القيامة . .) نعوذ بالله من سوء المصير . 
الله أكبر  الله أكبر لاإله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . 
عباد الله : بدخول شهر شوال تدخل أشهر الحج ، ومن الناس من يتهاون في أداء هذه الشعيرة والمبادرة إليها مع أنك تلحظه والسنّ يتقادم فيها وهو لايبالي ويؤجل كل سنة تأتية والتسويف من جنود إبليس فهل يدّكر من يصنع ذلك ويعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لايدري مايعرض له " رواه إمام السنة أحمد بن حنبل ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجّل " وربما حصل له مرضٌ مقعد لايستطيع بعد صحة طويلة فرّط فيها فكيف سيخرج بعذر من الله حين الحساب . 
الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بُكرة وأصيلا 
عباد الله : إن على ابن آدم حقوقٌ تجاه المخلوقين بعد حق الله تعالى وعلى رأس تلك الحقوق : 
* حق الوالدين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحسن صحبتهما وأداء حقهما على التمام والوجه الأكمل وحبس اللسان عن التضجر من أمرهما وإدخال السرور عليهما في كل آنٍ حسب الإستطاعة بل ربط رضاهما برضاه وسخطه بسخطهما فياخسارة من خسر والديه أو فرّط في حقهما وفي الحديث : " رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف ، قيل من يراسول الله قال : " من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة " رواه مسلم . 
* من الحقوق حقوق الأرحام من الصلة والزيارة فاحذر ممن قال الله فيهم : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تُفسدوا في الأرض وتُقطّعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) ومن أعظم الصلة : انتزاع الضغائن التي تحصل بينهم من طرفك أو المساهمة بالإصلاح إن كان من طرف غيرك ، وتذكّر الحديث العظيم حين قال صلى الله عليه وسلم : " ألا ادلّكم على بأفضل من الصيام والصلاة والصدقة ؟  " قالوا : بلى يارسول الله قال : " إصلاح ذات البين " وقال : " فساد ذات البين هي الحالقة ، لاأقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين "  . 
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله والله اكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد 








الجمعة، 3 مايو 2019

خطبة عن تدبر القرآن

الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب هادياً للصواب ولم يجعل له عِوجا وصيّره قائماً بالحق وجملة الآداب وضمّنه فصل الخطاب وشامل الجواب والصلاة والسلام على النبي والأصحاب ذوي الألباب صلاة وسلاماً تدوم من رب الأرباب وخالق الخلق من تراب جلّ وتقدّس لاإله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى بطانة أهل الإسلام وبه تنال العلوم وتستضيء الأفهام وذلك من قول الخبير العلام (( واتقوا الله ويُعلمكم الله والله بكل شيء عليم )) 
(( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويُكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكلّ محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار ، عباد الله : 
وصف الله عباده المؤمنين بأنهم يتلون كتاب ربهم حق تلاوته فقال : (( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأؤلئك هم الخاسرون )) وهذه الآية تشمل كل من أخذ بالقرآن من المسلمين ومن أهل الكتاب 
وقد ورد عن قتادة السدوسي التابعي الجليل رحمنا الله وإياه أنه قال : " هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أولى بالصواب من غيره ، وإن قال آخرون أنهم بعض علماء بني اسراءيل الذين آمنوا به ورسله جمعياً وعملوا بما جاء في التوراة وعلى كل حال فإن الآية معناها : " أي يتبعونه حق اتباعه " بل إن تلاوة القرآن حق التلاوة معنى عام يشمل إقمة الحروف والحدود ومعرفة الحلال والحرام والعمل بالمحكم والإيمان بالمتشابه ومن دعوات الصالحين : " اللهم اجعلننا ممن يقيم حروفه وحدوده ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته " . 
عباد الله : إن تلاوة كتاب الله ليست حروفاً تُقال ويُنطق بها مجردة من معانٍ وأوامر ومقاصد وأمر ونهي وواجب ومحرم وجائز ومستحب ولكن القرىن دستورٌ عظيم شاهد لمن عمل به وشافعٌ له وأنيس لصاحبه في القبر ويوم الحشر ، ومما ورد في ذلك حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبرُه كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك ، فيقول له : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، فيعطى المُلك بيمينه والخُلد بشماله ، ويُوضع على رأسه تاج الوقار ، ويُكسى والداه حلتين لايقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان بما كُسينا هذه ؟  فيقال : " بأخذ ولدكما القرآن " ثم يُقال له : اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرفها فهو في صعود مادام يقرأ هــذّاً كان أو ترتيلا ) رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجة في السنن وحسّنه بعض أهل العلم وصححه الألباني 
وفسر أهل العلم بكون القرآن يوم القيامة يكون كالرجل الشاحب أي( المتغير اللون )  والمقصود ( ثواب القرآن ) وذلك ليشابه سعيه في الدنيا وينافح عنه ويذود عن صاحبه حتى ينال مراده في الآخرة ، ولذا قال السيوطي في شرح سنن ابن ماجه : " وكأنه يجيء - أي ثواب القرآن - على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا أو للتنبيه له على أنه كما تغيّر لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن ، كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغااية القصوى في الآخرة " انتهى وقال المجدّدي الحنفي في شرح ابن ماجه أيضاً : " كأنه يتمثل بصورة قارئه الذي أتعب نفسه بالسهر في الليل والصوم في النهار " .
فهذا القرآن العظيم يتقدم صاحبه ويتقدم كل تاجر ويفوز صاحبه الذي يعمل به ويقيمه في نفسه وفي أهله ومجتمعه ، يقيمه بأعلى الدرجات وعالي المنازل .
عباد الله : إن مما يُخاف على الإنسان من قارئ للقرآن بلسانه ويُخالفه بقلبه وجنانه وعمله ومعاملاته ولذا ورد عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " رُبّ تال ٍللقرآن والقرآن يلعنه " قد أورد ذلك الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ، فالله على سبيل المثال يقول : " ألا لعنة الله على الظالمين " وتجده من أسبق عباد الله للظلم وسلب حقوق العباد ، وتجد أن الله يقول : " ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا .. " فتجده حينها من أسبق الناس لغيبة العباد والتجسس عليهم ، وتجد أن الله يقول : " إن الذين يُحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليم في الدنيا والآخرة .. " وهو ممن فيه هذه الصفة الموقوتة وهي محبة نشر الفاحشة ، وتجد أن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو ينشر المنكرات ويحثّ على الفواحش أو يرتكبها ويُسارع للسيئات , وهكذا فيجب على كلٍ منّا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمتثل أوامر الله فيأتمر بها ويحث على طاعته بالكلمة والنصيحة والتوجيه السليم بالتي هي أحسن ، ويحذر من مناهي الله ويُحذّر منها بالقول المقرون بالترهيب والمبــطّن بالمحبة للمنصوح والحذر من الشماتة به ونشر مثالبه ومعايبه مع سؤال الله العفو والعافية من شرّ ماابتلى به العباد من نقائص وفتن وبلايا ومحن ولنكن من أولئك العدول وأولئك الخلف الصالح الذين حدّث بهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال كما رواه مسلم من حديث عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مامن نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثمّ إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالايفعلون ويفعلون مالايؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل " . . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابراهيم العذري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المُبطلين وتأويل الجاهلين " أورده العلامة ابن عبدالبرّ في التمهيد وهو مرسل وصححه ، وصححه الإمام أحمد أيضاً وأورده البيهقي بلفظ : " يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين " . 
عباد الله : إن تدبر القرآن هو باب العلم الأول الذي يُعرف به الحلال والحرام والفوائد والحكم ، وما تصدر أحدٌ من علماء الأمة إلا بلا مبالغة إلا بتدبر القرآن والعكوف على معانيه مع بذل النفس في طلب العلم قال الله تعالى : (( كتابٌ أنزلناه
مبارك إليك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )) وقال الحق سبحانه : (( أفلا يتبدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها )) وقال جل ذكره : (( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا )) .
إن التدبر ياعباد الله له أثر في تغيير النفوس وتربيتها على الهدى والنور فكم من آياتٍ أحيت قلوباً ميتة ، بل إن بعضهم كان سببه إسلامه آية واحدة وصدق الله جل جلاله حين قال : ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء عباده ومن يضلل الله فماله من هاد ) فالوقوف عند معانيه وتعقلها سبب عظيم من أسباب الخشية والخوف من الله تعالى وسبب لاستقطاب العلم ونيله والفوز به ، ولقد كان المصطفى عليه السلام كما في حديث حذيفة بن اليمان
حيث صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقرأ مترسّلا ً إذا مرّ بآية تسبيح سبّح وإذا مرّ بسؤال سأل وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ " رواه الإمام مسلم في صحيحه وهذا نهجٌ نبوي ينبغي السير عليه وهو من الوسائل المعينة على فهم الكتاب وتدّبره والعمل بما جاء فيه حيث أن ذلك يُعين على استحضار القلب واستشعاره للمعاني الواردة في الآيات المتلوّه . 
اللهم أعنا على فهم الكتاب وتدبره والعمل به وبارك لنا فيه وأعنّا على مرضاتك واجتناب معاصيك وسخطك ياحي ياقيوم ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه ثمّ توبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود 

============ الخطبة الثانية ============

الحمد لله حمد الشاكرين وإله المتقين وسع علمه الماوات والأرضين والصلاةوالسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه ماتقرب العباد لربهم بأفضل من كلامه وخصوصاً في شهر رمضان وهي حقيقة فإن اشتغال القلب بكلام الله يكف عن اشتغاله بكلام العباد ، فإن القلب في الواقع مشتغلٌُ إما بكلام الله أو بكلام الناس فطوبى لمن اشتغل بما خُلق له من عباد الواحد الديان وياخسارة وغبن من فاته مواسم العبادات والطاعات مشتغلاً عن كلام ربّه وخالقه بكلام غيره الذي لاثمرة من وراءه ولا عاقبة حُسنى تُنال به ، فانظر إلى حال الرعيل الأول كيف أنهم يكررون ويُرددون كلام الله آية واحدةٌ أو آيات لتشتغل قلوبهم بلذيذ خطاب المولى جل جلاله فقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم صلى ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : ( إن تُعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) روى ذلك الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه  وقامت عائشة بآية وهي قول الله تعالى : ( قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البرّ الرحيم ) ترددها وتبكي لساعات وتقول : " اللهم منّ علينا وقنا عذاب السموم ، تقول ذلك في الصلاة ، وقرأ عمر الفاروق سورة الطور إلى أن بلغ قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع * ماله من دافع ) فبكى واشتدّ بكاؤه حتى مرض وعادوه . وورد في هداية جبير بن مطعم رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلمّا بلغ هذه الآية : ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لايوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ) قال : كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ماوقر الإيمان في قلبه  . 
ومن أعجب ماروي في ذلك قصّة علي ابن الفضيل بن عياض التميمي التابعي الجليل رحمه الله أن أبوه الفضيل كان يقرأ في المغرب بـ( ألهاكم التكاثر ) فلمّا بلغ قول الله تعالى : ( لترون الجحيم ) سقط الإبن علي مغشياً عليه فما أفاق إلا في ثلث الليل ، وقرأ ذات مرّة بآية في سورة الأنعام ظناً منه أن ابنه ليس في الجماعة الذين يُصلي بهم وهي قول الله تعالى : ( ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا ياليتنا نُرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) فما راعهم إلا سقوطه مرّة أخرى وكانت سقطته الأخيرة فارق بها الحياة وكان يُقال له " شهيد القرآن " . . فأنشدكم الله أين نحن من أولئك الكرام المؤمنين من أماجد السلف الصالح وأسوة المتقين وأعلامهم الأثبات القدوات . 
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير  












الأربعاء، 13 مارس 2019

جماعة التبليغ وأهمية الدعوة إلى الله على بصيرة

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الثقلين الجن والإنس كافة فنصح وبلّغ  ووجه وأرشد وأبلغ وللناس أسمع وله المقام الأرفع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً أما بعد : 
فاتقوا الله عباد الله فالتقوى هداية للضلاّل والجُهال ، وصلاحٌ للخلائق في كل حال 
( ياأيها الـذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ماقـدمت لغد واتقــوا الله إن خـبيرٌ بما تعملون) واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكل مُحدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار . 
عباد الله : إن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين وطريق عباد الله المفلحين والصادقين الصابرين ومن أراد الله رفعته في الدنيا والآخرة وكل قول يدعو لسبيل الله هو أحسن قول وأفضل حديث في الناس وخير مايتكلم به العبد يقول الحقّ تبارك وتقدّس :( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) 
وأمر الله نبيه بالدعوة إلى سبيله وأن تكون الدعوة عن علم ٍوبصيرة فقال : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) 
وأمر الله نبيه أن يدعو هو وكل من يمارس الدعوة إلى الله فأمرهم أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة فقال : ( أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) والحكمة من معانيها العلم والإصابة في القول والعمل وهي لاتأتي إلا عن طريق العلم ، قال سبحانه : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا وما يذّكرُ إلا أولوا الألباب ) فبدأ بالحكمة قبل الموعظة ، وكل ذلك يدلّ على ضرورة الدعوة بعد تعلم العلم الشرعي إن تمكن الإنسان من ذلك لكي يُفيد ويستفيد ويرفع الجهل عن كافة المهتدين فيتهدوا بقوله لسبيل رب العالمين ، فاللازم والواجب على من يمارس الدعوة أن يدعو على علم وبصيرة أو على أقل تقدير أن يستعين إذا لم يعلم بأهل العلم وأهل الذكر والحكمة والفقهاء من هذه الأمة الأمناء على الوحيين الذين لايحل لهم أن يكتموا علماً إذا علموا وسُئلوا ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : ( من علم علماً فكتمه ألجمه الله بلجام من نارٍ يوم القيامة ) .
عباد الله ومما أورده الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وإيانا جميعاً في رسالته : " المسائل الأربع " قال : " اعلم رحمك الله أنه يجب عليك تعلم أربع مسائل : الأولى : العلم وهي معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ، الثانية : العمل به - أي بالعلم - الثالثة : الدعوة إليه ، الرابعة : الصبر على الأذى فيه " . فانظر كيف بدأ بالعلم - رحمنا الله وإياه - فالذي يعلم يقوده ذلك إلى العمل ومن ثمّ الدعوة إلى ذلك العلم الذي علمه وهو معرفة الله وخشيته ، وانظر كيف يكون قدوة من لايعمل بما يعلم فكيف يأخذ منه الناس هذا العلم وكيف يهتدي على يديه الكثير وهو أول من يُخالف ذلك المنهج الذي يدعو إليه ، فلا بد من العلم المصاحب للعمل وأن يدعو إلى ذلك المنهج القويم - وهو دين الإسلام بالجملة - وأن يصبر على الأذى فيه لتتحقق النتائج ويزداد الأجر والمثوبة ويرقى الداعية في درجات الآخرة وينال المُراد وإلا فقد الثمرة وصار سعيُه بلا ثمرة وبلا نتائج ومكاسب تضاف لرصيده في الدنيا والآخرة ولقد أحسن من قال : 
الصبر مما يستزاد به الرُتب  * وفاقده يجني الخسارة والتعب 
وكن على يقين أن الناس لن يأخذوا منك حتى يمتحنوا صبرك عليهم وإمهالك لهم وعطاءك لهم في الشدة والرخاء والعافية والبلاء وكما قيل : 
فكم صابرٌ نال العُلا بمراده * وحاز رفيع الحال عقبى اجتهاده 
وكل تلك المسائل الأربع هي مبنية على قول الله تعالى : ( فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) وقوله سبحانه : 
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) وقوله تعالى : ( فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . . ) وقوله : ( فاصبر على ما يقولون وشبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . . ) فكل جماعة تخرج في سبيل الدعوة إلى الله عموماً يجب أن تسلك هذا المسلك وتنتهج هذا المنهج القائم على الكتاب والسنة . 
عباد الله : قد ظهر في الآونة الأخيرة نشاطٌ ملحوظ لجماعة التبيلغ وهم ممن يدعو إلى الله ولكن ينقصُهم العلم الشرعي الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وقد نبّه كثير من أهل العلم على ذلك ومن هذه الملاحظات عدّة أمور منها : 
* عدم تبني بعضهم عقيدة أهل السنة والجماعة وهذا أمر خطير يجّر إلى انحراف وضلال ، وإن كانت هذه الملاحظة في بعض الجماعات في الخارج فإن منهم من يميّع عقيدة الولاء والبراء أو لايُعيرها اهتماماً ويتحدث عنها ومنهم أيضاً من لايهتمّ بالتحذير من الطرق الموصلة للشرك وهذا جليّ واضح لمن فتّش عنه . 
* ومنها تأويلهم للقرآن وتفسيرهم بغير مراد الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام وفي ذلك قلبٌ للمفاهيم وترويج للباطل . 
* استدلالهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ونشرها في المجالس والملتقيات . 
* تفضيل البعض منهم الخروج للدعوة على الجهاد في سبيل الله ودفع الأعداء وكذلك تفضيله على الخروج في طلب العلم . 
* جرأة البعض منهم على فتوى بغير علم من باب الإجتهاد فتجد أنه يتحدث في التفسير والحديث والأحكام  الشرعية بأعوج من القول وبكلام بعيد عن فهم السلف الصالح بالجملة . 
* اهتمامهم بالرقائق والمواعظ على حساب بيان الأحكام الشرعية المهمة وتصحيح العبادات وممن سئل عن جماعة التبليغ عفا الله عنّا وعنهم جميعاً الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وإيانا أجمعين فأجاب بقوله : " جماعة التبليغ لهم نشاط طيب في أماكن كثيرة في الباكستان وفي أفريقيا وفي أوغندا وفي غيرها لهم نشاطٌ طيب وقد نفع الله بهم كثيراً وأسلم على أيديهم كثيرٌ من الناس وصلُح على أيديهم كثير والتزم بالحقّ ، لكنهم ليس عندهم نشاطٌ مطلوب في بيان العقيدة السلفية وما يتعلّق بدعوة القبور والإستغاثة بالأموات ، نشاطهم في مواد معلومة اصطلحوا عليها فإذا تيسّر أن يكون معهم من أهل العلم . . من أهل السنة . . من أهل البصيرة بالعقيدة يكون أكمل وأنفع حتى يجتمع الخيران : الخير الذي يتعلّق بالعقيدة وبيانُها وبيان ضدّها ، والخير الذي يتعلّق بدعوة الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإلتزام بالإسلام والحذر مما يُخالف الإسلام ، فهم عندهم بعض الجهل وعندهم عدم نشاط في الكلام في العقيدة فيجب على أهل البصيرة من أهل العلم أن يتعاونوا معهم حتى يُبصّرهم في هذا الأمر وحتى يتمّ النقص وحتّى يزول الشيء الذي كُره منهم حتى تزول المسألة المُنتقدة عليهم لإعراضهم عن مايتعلق بالعقيدة " . 
ثم قال رحمه الله : " فأنا أنصح من يستطيع من أهل العلم والبصيرة بعقيدة أهل السُنّة والجماعة أن يتعاون معهم حتى تكون الدعوة مُشتملة على كل مطلوب حتى يكمُل النقص ويحصل بذلك الخير للجميع من جهة العقيدة ومن جهة الأخلاق الإسلامية ومن جهة الأحكام فيما يتعلّق بالعلم والعمل والتفقّه في الدين وغير هذا من وجوه الخير نسأل الله أن ينفع بالجميع " 
وسئل الشيخ صالح اللحيدان عنهم في أحد لقاءاته فقال : " كان في عهد الملك سعود جاءت رسالةٌ من مجموعة كبيرة مُوقّع عليها من الهند وباكستان يطالبون بالبناء على القبور وكان فيهم جُملة من جماعة التبليغ منهم من أعرفه شخصيّاً أنه من جماعة التبليغ " وهذا دليل على عدم مبالاتهم بالوسائل الموصلة للشرك عموماً ، وذكر عفا الله عنا وعنه أنه يعرفهم من عام الأربع والسبعين والمائة والألف وأن الشيخ ابن إبراهيم مفتي الديار في ذلك الوقت استُفتي في شأنهم ومطالبهم وخصوصاً فيما يتعلّق بالبناء على القبور فألف رسالة جليلة اسمها : " شفاء الصدور في تحريم البناء على القبور "  . 
وممن أفتى فيهم بل وحذّر من الخروج معهم إلا بعلم العلامة الألباني رحمه الله فقال : " جماعة التبيلغ لاتقوم على كتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلفنا الصالح وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الخروج معهم " . 
فاللهم بصّرنا بديننا وعقيدتنا وأصلح قادتنا ودعاتنا وأفراد أمتنا وألف بين قلوب المسلمين واجمعهم على الحقّ والدين ياقوي يامتين وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

================= الخطبة الثانية =================

الحمدلله خالق الإنسان معلّم البيان ومنزل الفرقان والصلاة والسلام على رسولنا من نسل عدنان وعلى آله وصحبه أولي الفضل والإحسان وعلينا معهم ومن تبعهم واقتفى أثرهم مادامت الأزمان أما بعد : 
فاتقوا الله - ياعباد الله - واعلموا بأن التقوى سبيلٌ للعلم والمعرفة والخشية والإنابة وتوفيق الله تعالى ، ومن تأمل قول الله تعالى : ( واتقوا الله ويُعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) عرف أن التقوى بحدّ ذاته علمٌ ومعرفة وكلما كمُل واستتم حصل العلم والخشية وتصحيح المسار الخاطئ له ولغيره من الناس ، وبذلك يكون قدوة حسنة فتصلُح على يديه أمورٌ لايظن صلاحُها قبل ذلك ، ويجعل الله له فراسة وتمييزاً بين الحق والباطل والهدى والضلال والحرام والحلال والمُحكم والمتشابه عموماً وحقيقة ذلك قول الله جل ذكره وعلا قدرُه ( ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكُم فُرقاناً ويُكفر عنكم سيئاتكم ويغفرْ لكم والله ذو الفضل العظيم ) فانظر كيف يهبُ الله المُتّقي نوراً يميّز فيه بين الحقّ والباطل وجملة المتضادات التي ذكرنا  ، وكيف صيّر الله التقوى مشعلاً وسراجاً وهاجاً في قلب كل مؤمن ٍ فطنٍ  ، ومن يرجع لفراسة الصحابة وكثير من التابعين يجد من تعرّفهم للحق بفراسة أوتوها شيئاً عجبا ، ولهذا ورد عند ابن جرير في تفسيره ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسّم " وهذا الحديث حسن اسناده كثيرٌ من أهل العلم ، وقد روي عن فراسة المؤمن أحاديث لايصح بعضها ويكفينا في ذلك الآية السابقة ، ومما جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه - المجلدُ العشرون - وأصله حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشُبهات ، والعقل الكامل عند حلول الشهوات " والمقصود من ذلك كلّه هو التمييز بين الحق والباطل عند اشتباه الأمور وتداخل الحلال مع الحرام والتمييز بين الناس ممن إرادتُه الحق ومن إرادته الباطل ، وممّن يلتمس دينه من النور والهدى والوحيين ( الكتاب والسنة ) وممن يلتمس دينه من الأهواء ودس الشيطان ووسوته وتزيينه ، وكثير منهم لايُحسّون بذلك لأن المنكر اشتمل على قلبه واستولى على فؤاده في الواقع فزيّن له سوء عمله وهو ينظر إليه بأنه حسنٌ واعتيادي كحال من يتبيح البناء على القبور والطواف بها والإستغاثة بها الذي ورد بتحريمه النصوص الشرعية الواضحة ، فليحذر هؤلاء من قول الله تعالى : ( أفمن زُيّن له سوء عمله فرءاه حسناً فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليمٌ بما يصنعون ) ، وقال جل جلاله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) فانظر كيف حكم ربنا بالإشراك على من أطاع غير الله في معصية الله ولم يُفصل في ذلك ، وهذا يستوجب من المسلم أن يُغيّر من حاله ويضبط أفعاله كلّها بضوابط ومفاهيم الشرع الحنيف ،  فالتغيير الأولي يبدأ من القلب والميزان هو شريعة الله المحكمة والعقل غذاؤه العلم لئلا ينجر صاحبه للضلالة والأعوان هم الصحبة الصالحة الناصحة والله هو المُستعان وعليه التُكلان في حال وآن ، فاللهم رحمة تهدي بها قلوبنا ونوراً ينير بصائرنا وعقولنا وعزاً تُعز به أوليائك وخذلاناً تخذل به أعدائك ياقريب يامجيب ، هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية . . . 







خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...