عباد الله : الغطاء النباتي للأرض كافة والزروع والنخيل والمزارع والضيعات والبساتين كل ذلك من نعم الله على عباده التي تحتاج للتأمل والشكر والثناء على المنعم سبحانه بما هو أهله وكثيراً سبحانه يذكر هذه النعم فيسوقها مساق الإمتنان على العباد كما قال تعالى : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منه حبّاً فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنّاتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) وكما قال سبحانه : ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين ) ومرّة يسوق ذلك مساق الإشادة بالمنعم والحث على التأمل فيما يخلق ويوجد حيث قال : ( وهو الذي أنزل من السماء ماءاً فأخرجنا به نبات كل شيءٍ فأخرجنا منه خضِراً نخرج منه حبّاً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجناتٍ من أعنابٍ والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآياتٍ لقومٍ يؤمنون ) وقال جلّ وعلا : (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ شيءٍ موزون ) .
والله جل وعلا أمر بعمارة الأرض ديناً ودنيا ومن عمارة الدنيا عمارتها بالحرث والزرع لتأمين العيش وفعل الخير ولذا في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد والبزار في مسنده من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لاتقوم حتى يغرسها فليغرسها " ولفظ أحمد : " إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها " .
وكذلك كان فعل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون لأنفسهم ولغيرهم يبتغون بذلك وجه الله ويأخذون نصيبهم من الدنيا فعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : " سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأَبِي : " مايمنعك أن تغرس أرضك " فقال له أَبِي : أنا شيخٌ كبير أموت غداً ، فقال له عمر : " أعزم عليك لتغرسنّها " يقول عمارة : " فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي " .
وأما ما اشتهر بين الناس وهو مقولة : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً " فليس هو بحديث مرفوع ٍإلى النبي صلى الله عليه وسلم وضعفه بعض المحدثين ونسبه بعض العلماء إلى الوضع ، وينوب عنه قول ابن عمر رضي الله عنه حينما قال : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك " .
والحرث من النعم التي زُينت للناس كما قال تعالى : ( زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) وجعل الله ماعلى الأرض من النبات والزرع والنخيل والجنان زينة لها وابتلاءاً للعباد كما قال سبحانه : ( إنا جعلنا ماعلى الأرض زينة لها لنبلوهم ايهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ماعليها صعيداً جُرزا ) أي أرضاً لانبات فيها مستوية حتى الجبال يسوّها جلا وعلا بالأرض كما أخبر الله تعالى حينما قال : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعاً صفصفاً * لاترى فيها عِوجاً ولا أمتا ) أي لااعوجاج فيها ولا بروزٌ أو نتوء وكل ذلك يكون يوم الدين ووجه ابتلاء الله بتلك الزينة وتلك الخضرة والنبات هو امتحان العباد هل يستعملها في الطاعة ويجعلها عوناً له على طاعة ربه ومولاه ويتجنب استعمالها في الحرام أو استعمال مايخرج منها مما حرّم الله استعماله مما يضر بالعقل والجسد ، وقد أخرج ابن جرير وابن ابي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( لِنبلوهم أيهم أحسن عملا ) فقلت : مامعنى ذلك يارسول الله قال : " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله " .
وتأمل معي قول الله تعالى حينما قال : ( وهو الذي أنشأ جنّاتٍ معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه . . ) الآية وقال في آية أخرى : ( والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه . . ) الآية فهناك فرق بين الإشتباه والتشابه فالإشتباه هو اللبس وعدم التمييز والخلط بين شيئين مختلفين نسبياً ، وأما التشابه فمعروف وهو تقارب بين صنفين أو شيئين في كثير من الوجوه والمقصود من ذلك وجه إعجازي في القرآن وهو التقارب بين شجرة الرمان والزيتون فلمّا أراد أن يلفت النظر للشكل والمرأى قال : " مشتبهاً " أي على الناظرين فالكثير من الناس لايميز بين أوراقٍ كلٍ من الشجرتين ولما أراد أن يلفت النظر للطعم قال : " غير متشابه " أي في الطعم وكل ذلك لبيان قدرته سبحانه على الإيجاد والتمييز في الأمور الدقيقة التي لايستطيع التفريق بينها أحد وما ذكرنا ضربٌ منها لطيف وهناك ماهو ألطف وأصغر بكثير من ذلك فلذا قرن بين التشابه والإشتباه وهما اشتقاقين في اللغة مختلفين ، ولما أراد أن يُبين نعمته وفضله أفرد اللفظ باشتقاق واحد وهو التشابه حيث قال جلّ وعلا في الآية الأخرى عن الزيتون والرمان ( متشابهاً وغير متشابه ) أي في المنظر والطعم .
ومن وجوه مظاهر نعمته وقدرته قوله سبحانه عن الأرض والنخيل :
========== الخطبة الثانية ==========
الحمد لله الكريم الأعلى الذي أعطى عباده من الخير وأولى وأخرج المرعى فجعله غثاءاً أحوى والصلاة والسلام على الرسول المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى وعلى من اتبع سبيله واقتفى أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واستعينوا بنعمة الله على عبادة الله واعلموا أنكم إلى الله صائرون وإليه تحشرون وعن نعمته مسؤولون وبأعمالكم مجزيون .
عباد الله : ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لاتتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا " وهذا الحديث حديث حسنه الترمذي من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقد يُشكل على البعض فيُظن أنه لايحل للرجل أن يتخذ مزرعة أو حائطاً أو ضيعة! فكيف الجمع بينه وبين حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مامن مسلم ٍ يغرس غرساً إلا كان ماأُكل منه له صدقة وما سُرق منه صدقة ، ولا يرزؤه أحد - أي ينقصه - إلا كان له صدقة " فيُقال من خاف على نفسه أن يُفتن ويترك الإنفاق منه أو يمنع حق المسكين منه فلا يحل له أن يتخذ مزرعة أو بستاناً وكذلك لو خاف على نفسه أن يرغب في الدنيا ويترك العمل للآخرة فلا ينبغي له أن يتخذ هذه المزارع والضيعات لأنها تُشغله عن الآخرة والسعي لها والعافية لايعدلها شيء .
عباد الله : هناك فئة من بني جلدتنا تنزعهم أنفسهم للفساد والإفساد لم تسلم الأشجار ولا المراعي من شرورهم قد اتخذوا الإفساد وقطع الشجر بلا حاجة ولا ضرورة اتخذوا ذلك مهنة ومتعة ، فكان لهم نصيب من قول الله تعالى : ( وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لايُحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) نسأل الله العافية .
وقد ورد التحذير من هذا الصنيع ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاطع السدر يُصبون في النار على رؤوسهم صبّا ً " والحديث أخرجه البيهقي وحسنّه بعض أهل العلم .
- ومن صور الإفساد والإتلاف تقذير الأماكن التي يرتادها الناس وكذلك المنتزهات البرية والحدائق والمرافق العامة بإلقاء المخلفات فيها وإفسادها على مرتاديها ولا شك أن هذا خطأ وجهل وسوء تصرف وطرق التخلص من النفايات والمخالفات كثيرة وغالباً ولله الحمد توفر الأمانات والبلديات حاوياتٍ يُلقي فيها تلك المخلفات ولو لم يكن ذلك فما المانع من أن يحتفظ بتلك المخلفات حتى يجد حاوية يُلقيها فيها فكونوا - ياعباد الله - أعوان خير على ذلك وكفوا من كان تحت ولايتكم عن تلك العادة السيئة فديننا دين نظافة وجمال وتعاون وكمال أصلح الله الراعي والرعية ودفع الله عن المسلمين كل سوءٍ وبلية .. ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه . .