الاثنين، 18 يوليو 2022

خطبة عن الوصية وجوبها وآثارها ومنافعها

  إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .

عباد الله : لكل بداية خاتمة ولكل حادثة وقتٌ وزمان ولكل حي فناء وزوال ولكل حياة نهاية وموت فهذه سنة الله في الحياة وفطرته ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم  . . ) ومادام الأمر كذلك فلا بد أن يكون الإنسان على حذر في هذه الحياة مما يكون له في مستقبل أمره في فترة مابعد الموت خاصّة والمؤمن كيّسٌ فطن ومن الحذر الذي هو من شيمة المؤمن الوصية ، فالوصية فيها حفظٌ لحقوق النفس ولحقوق الأهل والأولاد والناس الذين يرتبط معهم الموصي بحقوق واجبة وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " زاد مسلم : قال ابن عمر : " مامرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي " متفق عليه . 

عباد الله : كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة ثمّ قال بعض أهل العلم أن ذلك نُسخ ففي الآية التي سورة البقرة : ( كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين * فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبلونه إن الله سميع عليم ) حيث أن هذه الآية نُسخت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حقٍّ حقه فلا وصية لوارث " أخرجه أبوداود في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، وقد اشتُرط في النسخ أن لايُمكن الجمع بين الدليلين ، فإن أمكن الجمع بين الدليلين فإنه لايُصار إلى النسخ ، ويمكن الجمع بين الدليلين دليل الكتاب والسنة في هذه المسألة ، وذلك أن الوصية تكون للوالدين الأباعد ( وهم الأجداد والجدات )اللائي لايرثون أو من حُجب بوصف ، وليس المقصود بذلك من كان من الورثة الذين يرثون سواء كان بفرض أو تعصيب ، وبهذا الجمع تجتمع الأدلة ويُعمل بالدليلين  .

عباد الله :  الوصية ياعباد الله خلاص من المشاكل وردٌ للحقوق وتخلّصٌ منها ، فكم ضاعت حقوقٌ بسبب التفريط في كتابتها وإثباتها ، والله امر بكتابة الديون حين قال في أطول آية في كتاب الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بنكم كاتب بالعدل . . ..) الآية ، وإنك لتعجب من أناس ٍ غارقين في الديون إلى هام رؤوسهم ولايوجد عنده سجلٌ أصلاً بالمديونيات التي عليه ، فهذا ماحاله إذا فاجئه الموت وما حاله بعد الموت ، مع علمه أن الدين لايغفره الله مهما كانت الأسباب حتى تُرد الحقوق إلى أصحابها ولو مات شهيداً وقُطعت أوصاله في سبيل الله ، وفي الحديث عند مسلم من رواية عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين " وفي رواية : " القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدين " . 

إخوة الإسلام : لزوم الحد الشرعي وعدم التجاوز في الوصية أمرٌ واجب ، فالجور في الوصية والظلم أمرٌ خطير يورد الجحيم وفي الحديث في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضُرُهما الموت ، فيُضارّان في الوصية ، فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه وعنا أجمعين راوي الحديث : ( من بعد وصية يُوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليمٌ حكيم * تلك حدود الله . . ) الآية  ، وعند الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيُختم له بشرّ عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيُختم له بخير عمله فيدخل الجنة ، ثم قال : واقرؤا إن شئتم : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهين )  . 

فالحذر من الجور في الوصية فالجور في الوصية يُفسد مابين الورثة ويورث الخصومة والتنازع والتدابر والتقاطع وهو كبيرة من كبائر الذنوب وسبب من أسباب عذاب القبر ودخول النار أجارنا الله وإياكم ، والعقوبة تشمل المُوصِي والمُوصى الذي ربما حرّف في الوصية وبدّل ولذا قال الله في هذا الشأن : ( فمن بدّله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميعٌ عليم ) ، والساكت عن الجور في الوصية بعد علمه من الورثة يناله مايناله من العقوبة ، ولذا يجب على من حضر الوصية أن ينصح المُوصي ويخوفه بالله قبل موت الموصي وأما بعد موته فيعظ الورثة أن لايمضوا هذه الوصية التي فيها جور وظلم وأن يُصلح بينهم وذاك قول الله تعالى : ( فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم ) والجنف هو الوصية بجورٍ جاهلاً بالحرمة والوعيد ، وأما الإثم : فالمقصود به أن يوصي وصية جورٍ عالماً بالوعيد متعمداً ، وهذا يدلّ على أن الورثة إذا أمضوا الوصية يطالهم الإثم لأن الله استثنى المُصلح فقط بينهم والذي لايرضى بالظلم والعدوان فهو الذي يسلم من الوعيد فينبغي أن يحذر العبد من كل مالٍ أو مكسبٍ لايحل له ليسلم من عذاب الله ووعيده في الدنيا والآخرة ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 

=========== الخطبة الثانية ===========

الحمدلله الذي شرع فأحكم وبيّن وأعلم  وهو العلي الأكرم ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة المعظّم ورسوله المكرّم وعلى الآل والصحب الذي تفضل الله عليهم وأنعم وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : 

عباد الله : الوصيّة منها ماهو واجب ومنها ماهو مستحب مندوب ومن الوصية ماهو محرّم وإثم فالواجب في الوصية أن يوصي بأداء ماعليه من حقوق ويذكر تلك الحقوق ويثبتها بالتفصيل ويبين أنه حين أوصى أنه في كامل عقله ولايلزم وصيته في حال صحته عندما تكون عليه حقوق ٌ واجبة، ومن الوصية ماهو مستحب كأن يوصي لنفسه بأن يُتصدق له على فقير أو يُبني مسجداً أو يدعم مشروعاً خيرياً أو يُفطّر صائم أو نحو ذلك بثلث ماله فأقل فهذا عملٌ صالح مسنون وهو مما يقدمه المرء في حياته ليجد ثوابه بعد مماته ، ومن الوصية ما هو محرم وإثم كأن يوصي بأكثر من الثلث بعد موته فلا يُعمل بهذه الوصية إلا بإجازة الورثة ، فإن أبوا فلا تمضي هذه الوصية إلا بالثلث من ماله فما دونه ، ومن الوصية المحرمة الوصية بحرمان وارث من الإرث حتى لو كان أبوه يكرهه أو كان الإبن عاقاً ، أو أن يوصي لشخص غير وارث أو وارث بأكثر من الثلث وكذلك الوصية للوارث لاتصح إلا إذا أجازوه الورثة لقوله صلى الله عليه وسلم : " لاوصية لوارث إلا أن يُجيز الورثة " رواه الدار قُطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه   

عباد الله : الإشهاد حين الوصية الشفوية أمرٌ واجب وكذلك حين الكتابة لقول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيُقسمان بالله إن ارتبتم لانشتري به ثمناً ولو كان ذا قُربى ولانكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين * فإن عُثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيُقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ومااعتدينا إنا إذا لمن الظالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تُرد أيمانٌ بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لايهدي القوم الفاسقين ) وهذه الآية تدلل على أهمية الشهادة في الوصية وأنها تكون برجلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترتتضى شهادته  ، علماً أن المرأة لاتُقبل شهادتها في الحدود خاصة وتُمضى شهادتها في الأموال ، بل إنه يُقبل في الحقوق والأموال شهادة الرجل مع يمين المدّعي وشهادة المرأتين مع يمين المدّعي على الصحيح وهو قول شيخ الإسلام وجمعٌ من أهل العلم وعلى رأسهم الشيخ ابن بازٍ وابن عثيمين رحمهم الله وإيانا اجمعين ، ومن أهمية الشهادة أن الله رخص في قبول شهادة من لم يكن على دين الإسلام إن احتيج له في حال الموت والإحتضار لقول الله تعالى : " اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت . . " الآية فيُحبس الشاهدان من بعد صلاة العصر - وهي الصلاة المذكورة في الآية - فيُقسمان بالله على أداء الشهادة على وجهها وعدم التزوير أو التغيير فيها ، فإن بدلا أو غيّرا في الشهادة فيقوم بدلُهما اثنان فيشهدان أنهما غيرّا وبدلا في الشهادة فتُسقط شهادتُهما ويؤخذ بشهادة من شهد بتكذيبهما من أولياء الميت وذلك كله ليتحقق أداء الشهادة على وجهها فلا يكذب الشهود من غير المسلمين ويهابوا أن تُرد أيمانهم فيأتوا بالشهادة على وجهها وإلا كان رد شهادتهم إن ثبت كذبهم وتغييرهم . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال الحق جل شأنه وعظُم سلطان وصدق بيانه : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...