إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عبادالله : إن من صور النعيم في الدنيا والآخرة السعادة وانشراح الصدر والطمأنينة فهذا نعيمٌ يُدخل النعيم الأكبر وهو دخول جنة الرحمن والطمأنينة والسعادة وانشراح البال والخاطر في وقتنا هذا أصبحت عزيزة في وقتنا هذا خاصة فلاتُنال بالمال ولا بكثرة الأعمال ولا بالذكاء والفطنة وإنما هي توفيقٌ من الله أولاً وعملٌ بأسباب الإنشراح والطمأنينة والسعادة وأول تلك الأسباب هي كثرة الذكر حتى يطمئن العبد به اطمئناناً لايرغبُ باستبداله أياً بأي شيء من عرض الدنيا الزائل القليل مع التزود الحرص على التزود بالأعمال الصالحة ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) والله جل وعلا ماوصف في كتابه أياً من العبادات بوصف الكثرة كما وصف الذكر : (( ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بُكرة وأصيلا )) ولما ذكر أوصاف المتعبدين له يسائر العبادات أفرد الذاكرين والذاكرات من بين المتعبدين بالكثرة وحثهم على الإكثار من ذلك ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما ) وهذا يدل على أن مايوصل ابن آدم للدرجة المطلوبة من الرضا واليقين والطمأنينة والسعادة والإنشراح إلا كثرة الذكر ومما يدلل على ذلك أن المنافقين قد ذكر الله عنهم أنهم يذكرون الله ولكن ذكرهم لله قليلٌ ومع ذلك مانفعهما ذلك لعظم جرمهم وقلة ذكرهم لله ( إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولايذكرون الله إلا قليلا )
عباد الله : ومن تلك الأسباب التي تجلب الطمأنية والإنشراح : اجتناب مواطن الغفلة كلها قدر الإمكان ، فإن صاحَبَ تلك الغفلة وجود محرمات ومحظورات شرعية فإن هذا هو الذي يجلب الهم والنكد للعبد ، وما جعل الله أنس وراحة ابنِ آدم في ماحرّم عليه أبداً ، وإن أبدى ابنُ آدم الفرح والسرور ، والله قد قطع العهد على نفسه جل وعلا بأن يـُشقي المعرض عن ذكره ويسلّط عليه الضنك والضيق ويُعقبُه سوء المصير ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرُه يوم القيامة أعمى * قال ربِّ لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتُنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى )
عباد الله : ومن الأسباب أيضاً كثرة الدعاء فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من التعوذ من الهم والحزَن ، فقد روى البخاري رحمه الله وإيانا أجمعين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أخدمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل ،فكنت أسمعه يُكثر أن يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزَن والعجز والكسل والبُخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال " وهل رأيتُم في يومٍ من الأيام أن الهمّ والحَزَن عالج مشكلة أو حلّ معضلة أو جلب نصراً أو فتحَ قُطرا ، أو رفع بلوى ، أو دفع شكوى ، أو دفعك لعمل الخير أو صرف عنك الشرّ .
الهم والحزَن - ياعباد الله - يُشغل القلب والفكر وإن استشرى بالعبد أقعده عن فعل الفرائض والواجبات ، وأثقل بدنه وفكره ، وربما سبب له أمراضاً مستعصية ، وجلب له ضيق الصدر وسوء الخُلق والتشاؤم وعندما تسبُر هذا الداء تجد أنه ضعفٌ في القلب وضعفٌ في الإيمان أيضاً
يقول ابن القيم رحمنا الله وإياه والمسلمين : " إن المؤمن قوته من قلبه وكلما قوي قوت قلبه قوي بدنه ، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة ، فتخونه قوّته عند أحوج مايكون إلى نفسه "
ولا يُقوّي القلب إلا أمدادٌ من التقوى والإيمان فالتمس لقلبك كلَّ مايقويه من معاني الإيمان واليقين والتقوى فما دخل النقص على ابن آدم إلا بخلل في إيمانه ويقينه وتقواه وعلامة ذلك كما قال الله جلّ وعلا : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياتُه زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) وكما قال الله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) جعلنا الله وإياكم منهم أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة قاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============== الخطبة الثانية ==============
الحمدلله الذي له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمدٍ عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان أفضل الصلوات والتسليم من الله العلي الكبير أما بعد :
عباد الله : عندما تُعاشر الناس في مجالسهم ومنتدياتهم تجد من الناس من يشكو لك من مللٍ أو ضيقٍ أو همٍ ألمّ به فهذا العبد هو في حالة تُشبه حالة الغريق الذي يستنجد بغيره لينقذه مما هو فيه ، وهنا يأتي دور الناصح المُصلح الذي ينتشل أمثال هؤلاء فيوجههم بموعظة صادقة بليغة تُغير مسار حياتهم ونمط عيشهم وتعامُلِهم مع مايطرأ لهم من مُشكلات وهذا من أجلّ الأعمال الفاضلة التي وردت في الحديث حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " سرورٌ تُدخله على مسلم : تكشف عنه كرباً ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطرد عنه جوعاً " فانظر كيف فسر السرور في هذا الحديث بكشف الكرب وقضاء الدين وطرد الجوع ، وليس ذلك للحصر ولكن أفضلَ مايُدخل السرور على العبد هذه الأمور لقلّة من يقوى عليها غالباً ، ومايزال الخير قائماً في هذه الأمة حتى يرث الله الأرض وماعليها .
وماعولجت - ياعباد الله - الضائقات والهموم والأحزان بمثل التفاؤل والأسباب الروحية كسماع القرآن بكثرة والظن الحسن بالله والرضا بأقداره والإستسلام لأمره في شأن العبد كلّه وهو المنّان الذي يرسل تلك الهموم والأحزان على عبده المؤمن ليكفر عن خطاياه ويرزقه السعادة والرضا والقبول فأبشر ياعبدالله بالخير كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام : " مايُصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حَزَن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفّر الله بها من خطاياه " وفي حديثٍ آخر : " من يُرد الله به خيراً يُصب منه " وقال أيضاً في حديث آخر : " أبشروا وأمّلوا مايسركم " وفي حديث عبدالله بن عمرو عند ابن ماجه قال رضي الله عنه : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقَّب من عقًّب ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسرعاً قد حفزه النفس ، وقد حسر عن ركبتيه ، فقال : " أبشروا ، هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء ، يُباهي بكم الملائكة ، يقول : انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " .
ثم صلوا وسلموا على صفوة الأبرار النبي المختار كما قال جلا وعلا : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . .