الاثنين، 28 فبراير 2022

خطبة عن خطر الفتوى وأثرها وضوابطها

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون )
( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
عباد الله : القول على الله بغير علم سبيلٌ من سبُل الجحيم وأثره على الفرد والمجتمع والمفتي والمستفتي عظيم والله جلّ وعلا ذكر من خلقه من المشركين ومن سار على طريقتهم أنهم يجادلون ويضلون بأهوائهم بغير علم فقال جلا وعلا : ( وإن كثيراً ليُضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) وقال سبحانه : ( ومن الناس من يُجادل في الله بغير علم ويتبع كلّ شيطانٍ مريد ) وقال أيضاً : ( ومن الناس من يُجادل في الله بغير علم ولاهدىً ولا كتاب منير ) والجدال في أصله مذمومٌ ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " ماضلّ قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ثم قرأ : ( ماضربوه لك إلا جدلا ) أي - عيسى عليه السلام - وفي هذا الحديث يدل على أن الذي يتوغل في الجدل ويُعرض عن النصوص أو يأوّل النصوص أن عنده ضلال قطعاً بنص الحديث ، وكان أهل الجدل من المتكلمين الذين ظهر أوائلهم في أواخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم فظهرت المبتدعة والمتكلمين في القدر وأنكر بعضهم الصفات وتناول القرآن والسنة جدلاً ومناظرة فمنهم من تأوّل النصوص بما لايصح تأويلها به ومنهم من أنكرها ، وكان أول من تكلّم بالقدر معبد الجهني وغيلان الدمشقي وظهر بعده الجعد بن درهم الذي يقول بخلق القرآن ونفي الصفات ثم تتابع أناسٌ بعدهم كلٌ يأتي برأي يُخالف منهج السلف ويُناكف به أهل الحق ويشاقق به الله ورسوله والمؤمنون وكما قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ مهلكات : شحٌ مُطاع وهوى متّبع وإعجاب المرء بنفسه " رواه الطبراني والبزّار بسندٍ جيّد .
وفي حديث أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " رواه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعاجم الثلاثة ورُوي عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : " إن أخوف ماأتخوّف عليكم اثنتان : طول الأمل واتباع الهوى ، فأما طول الأمل فيُنسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق " .
عباد الله : ومن القول على الله بغير علمٍ واتباع للهوى الفتوى بجهلٍ متعمداً ومستهيناً بهذا العمل ، ولا يحلّ لامرئ أن يُفتي إلا من توافرت فيه شروط الفتوى وكان عالماً بالمسألة التي أفتى بها بدليلها أو تعليلها الفقهي السليم من المناقضة والذي أقرّه أهل العلم ومن شروط الفتوى والإجتهاد مايلي :
* ان يكون عالماً بكتاب الله وبمعانيه وخصوصاً أدلة الأحكام ومايتعلق بها من المسائل الشرعية وماتبني عليه من الأدلة التي تحوي الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيّد وما يكتنف تلك المسائل .
* ومنها أن يكون عالماً بالسنة بشكل عام وما يتعلق بها من روايات مرتبطة وأدلة صحيحة وضعيفة ، وما تقدّم من الأدلة وما تأخر فإن ذلك مما يُبنى عليه الحكم الشرعي علماً أن أدلة السنة واسعة وفيها من التفصيل ماليس في كتاب الله ، وقد ظهر قومٌ يستهينون بالسنة ولا يهتمون بأدلتها أو يقصونها ويكفيهم زجراً قول النبي الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه " أخرجه أبوداود في سننه .
* ومنها أيضاً أن يكون عالماً باللغة العربية ولسان العرب وذلك لتمييز الحكم الشرعي وإخراج مايُخرجه الخطاب الإلهي أو النبوي وإدخال مايُدخله الخطاب وهذا مهمٌ في استنباط الأحكام .
* وأن يكون عالماً بالإجماع وبمواطن الخلاف والمذاهب والآراء الفقهية لتوضيحها وبيانها وبيان ماينصره الدليل منها لكي يُفتي بها ويُبلّغه لطالب الحق والصواب .
* العلم بمقاصد الشريعة والقواعد الفقهية وأصول الفقه لكي يرد المسائل الجزئية للقواعد الكليّة ويتضح للمستفتي مراد الله وحكمه ويكون المُفتي على قاعدة بيّنة واضحة فلا يموج به الرأي حين ورود المسائل الفقهية ، ويضطرب في الجواب ويُجانب الحق والصواب حين الإستفتاء .
* ومن الشروط أيضاً العلم بأحوال الناس وعُرفهم وهذا ينبني عليه الحكم الشرعي في المسائل التي لادليل عليها صريحٌ واضح والعادة محكّمة كما هي القاعدة المعروفة مالم تكن متعارضة مع شرع الله الحكيم .
عباد الله : شرع الله صالح لكل زمان ومكان وهذه حقيقةٌ مسلّمة لاينكرها إلا من جهل أو تعامى عن الحق ولكن الكثير من المتعالمين أو طلاب العالم يجهلون مايُسمّى بفقه النوازل والتعامل مع المستجدات الحديثة ، فيضطرب ويجهل ماينبغي أن يتكلم به أو يبلّغه للناس حين وقوع النازلة التي ينبغي أن يردّ علمها والإفتاء فيها لذوي الإختصاص من العلماء الذين حرّروا الفقه ودرسوه وتعمّقوا في قواعده وأصوله وكليّاته وجزئياته ، والذين هم أهل الصنعة والديانة فلا ينبغي أن يجتهد رأيه في ذلك وليس مؤهلاً حتى لو كان طالب علم لأنه يعلمُ القليل ويجهل الكثير فيزلّ مزلّة تهوي به في دركات الجحيم ، وكان في منأى لو أنه ردّ العلم لأهله .
عباد الله : هُناك مسائل فقهية قد يُثيرها أعداء الإسلام تهكماً بالإسلام وأهله ، ويطبّل لها أناس من بني جلدتنا ممن يندس في صفوف هذه الأمة ، فإياك أخي المُبارك أن تكون معول هدم بنشر تلك الأباطيل التي لها جواب في كتاب الله أو سنة رسوله أو الحجج العقلية ولكن يجهلها الكثير من الناس لجهلهم ولضعف إيمانهم ومجالستهم ومحاورتهم أولئك الأراذل من الخلق ، والله حذّر من هذا الصنيع حيث قال جل وعلا : ( وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلُهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) .
فمن لم يحاورهم بالحجة ويُقارعهم بالحق مع تمكنه من العلم الشرعي المؤصل إن كان ذلك ينفعهم ويطلبون في ذلك الحق وإلا فالواجب عليه أن يتجنبهم ويحذَر ويُحذّر منهم وهذا مادلت عليه الآية وأرشدت إليه وإن لم يفعل فهو مثلُهم فويلٌ له إن لم يتداركه الله بتوبة ورحمة نسأل الله لنا ولكم العافيه والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة وأن يثبتنا على دينه ويقمع أهل الزيع والفساد والعناد إنه جوادٌ كريم ، أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم . 
============== الخطبة الثانية ===============
الحمدلله الذي يهدي من يشاء بنعمته ورحمته ويُضل من يشاء بعدله وحكمته والصلاة والسلام على المبعوث للعباد بفضل الله ومنّته نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وأهل ملّته صلاة وسلاماً نرجو بها نرجو بها الدخول في شفاعته أما بعد : 
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن للفتوى أثراً على الدين والنفس والفرد والمجتمع وأمن البلاد بشكلٍ عام ، وكل ذلك سببه عدة أمور منها :  
- عدم الرجوع للأئمة الراسخين في العلم وذلك أن من الناس من عنده علمٌ شرعي ومن الممكن أن يُفتيك ويعرف بعض المسائل ولكن ليس من الراسخين في العلم ، فالرسوخ في العلم منزلة أعلى قلّ من ينالها - ياعباد الله - وذلك أنه في زمن الفتنة يُقدم بعض المنتسبين إلى العلم وأهله تنازلات قد تصل إلى التنازل عن مسلّمات في الشريعة وذلك كما يقولون بسبب ضغط الواقع واسترضاء الرأي العام ، فيعزّ عليهم هذا الأمر فيزلّون في هذا الشأن وتكون فتواهم دخيلة ليست متجرّدة لله ورسوله وهنا يأتي دور الراسخين في العلم ويعضُّون على الحق ولو كرههم كل مخلوق ، ومن ثمّ يظهر بعد ذلك للناس فضلهم وعلو منزلتهم بسبب هذه المِحن والإبتلاءات التي مرّوا بها ، ولهذا أهل العلم يقولون كلمتهم المشهورة : " إذا أقبلت الفتنة عرفها العلماء فإذا أدبرت عرفها الدهماء " والدهماء عوام الناس  . 
- وترك المشورة في الأمور المُعضلة سبب من أسباب الإنزلاق في الشرور والمشورة بإمكان كل شخصٍ عاقل لبيب أن يُقدمها ، فليست مثلُ الفتوى التي تختص بعلماء مُختصين . 
- وكذلك الحماس والتسرّع لدى بعض الشباب الذي يجرّه لتجاوز حدود الله عاقبته الندامة وخسارة الدنيا والآخرة وطاقة الشباب معشر الآباء والمصلحين لابد من استثمارها في عمل الخير وصناعة المجد لهذه الأمة فالشباب هم أس نهضتها الذي تقوم به ، فلذا وجب على كل مربٍّ ومسؤول أن يُرشد ويدل كل من تحت يده التوجيه الأمثل فهم أمانة ونعمة ، ولا يجعل هذا الشاب تتلقفه أيدٍ آثمة تورده مالا يُحمد عقباه ويطال الجميع بلواه . 
وختاماً - ياعباد الله - ينبغي أن يحذر العبد من انتقاء الفتوى حين خلاف أهل العلم ، فبعض الناس يتخذ ذلك ذريعة لأن يتخير من أقوالهم مايناسب حاله وهواه ولا يحرص على اتباع من يتبع الدليل منهم ولو أن كل شخصٍ عمل هذا العمل في كل أحواله لاجتمع فيه الشرّ كله ، وذلك أن لكل عالم مهما بلغت منزلته لابد أن يخرج له قولٌ مرجوح في مسألة من فروع المسائل مع أنه على خير ويُصيب في أكثر المسائل - وأبى الله إلا أن يكون الكمال له جلّ وعلا - فيأتي هذا الذي ينتقي من الأقوال مايوافق هواه فيختار هذا القول ويعمل به وينشره ويدعو إليه فيضل ويُضل ، ولذا أجمع العلم على هذه المقولة : " من تتبع الرُخص تزندق " ونقل الإجماع ابن عبدالبر وابن حزم رحمهما الله ، فنسأل الله أن يهدينا سواء السبيل ويقينا شرّ أنفسنا والشيطان في سائر الأحوال فهو المستعان وإليه المآل . . ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير فقد قال جلّ في علاه : ( إن الله وملائكته يُصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خطبة عن حسن الخاتمة وأسبابها

  الحمدلله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير ، خلق الخلق ليعبدوه ووعدهم بالعاقبة الحميدة وهو اللطيف الخبير، والصلاة والسلام ع...