فاتقوا الله - عباد الله - ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار .
أيها المؤمنون : قص الله علينا جل وعلا في كتابه العظيم مافيه عبرةٌ لأولي الألباب والأفهام والعقل السليم ومافيه موعظة للقلوب الغافلة التي أشغلها أمور الحياة والعمل لهذه الدنيا
وأكثرُ القصَص في القرآن تتعلق بإثبات الواحدانية لله تعالى ، وينصبُّ أكثرها في هذا الهدف ومن هذه القصص قصة ( أصحاب الكهف ) التي كثيراً مايقرأها الناس ، ولكن لايستخرجون منها العبر والدروس ولا يغوصون في معانيها الخفيّة التي تحتاج لقلبٍ واعٍ ومتدبر يقرأ بقلبه لابعينيه وهكذا المؤمن ينبغي أن يكون وليست قصة أهل الكهف بأعجب آيات الله بل هناك لو تمعن الإنسان في حياته ومن حوله يجد أعجبَ من ذلك ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) أي ليست بأعجب آيات الله والرقيم قيل هو اسمٌ للوادي الذي فيه الكهف وقيل هو اسم للوح مرقم دونت فيه أسماؤهم وهو الأقرب .
عباد الله : أهل الكهف فتية اختاروا طريق الهداية والإيمان كما قال الله عنهم : ( آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) رفضوا طريقة آبائهم الشركية وأخذوا عهداً على أنفسهم أن لايشركوا بالله جل وعلا وربط الله قلوبهم بالإيمان والتعلق به وهو الرحيم الرحمن واستعظموا هذا الشرك واستهجنوه ، وفي ذلك يقول الله عنهم ( إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوَا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) فقاموا رحمهم الله باعتزال قومهم ودخلوا كهفاً فناموا فيه نومة ضرب الله فيها على سمعهم الذي هو باب الإنتباه مدة طويلة حيث قال الله جل وعلا : ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا . . . )
ثم بعثهم الله من نومهم بعد ذلك ومكثوا في كهفهم تسعٌ وثلاثمائة سنة وأثناء نومهم يقلبهم رب العزة والجلال ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد والوصيد هو فناء الكهف قرب بابه والعجب في نومهم أن الله ضرب عليهم هذه الرقدة الطويلة وأعينهم مفتوحة وهذا من آيات الله .
يقول في ذلك جل وعلا : ( وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) لئلا تأكل أجسادهم الأرض ثم قال الله سبحانه لنبيه : ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمُلئت منهم رعبا ) وسبب هذا الرعب بسبب الهيبة التي ألبسهم الله إياها وقيل بسبب طول شعورهم وأظفارهم وعِظم أجرامهم ووحشة مكانهم .
عباد الله : ساق ابن جرير في تفسيره بسنده عن ابن عباسٍ في عدّة أهل الكهف أنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبُهم وأخبر الله عن عدّة أهل الكهف أنه مايعلمهم إلا قليل وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول : " أنا من القليل ، كانوا سبعة " وقال في سند آخر : " عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم وأنا ممن استثنى الله " والآية تؤيد هذا القول بكونهم سبعة فإن الله استثنى قوله : ( ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم . .) من الرجم بالغيب وهذا واضحٌ لمن تأمله والمقصود الإعتبار والتأمل وليس العدد فكونهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة لايُقدّم ولا يؤخر، ولكن ماذا كان أثر تلك السورة وهذه الآيات على النفس وقد أورد ابن جرير في تفسيره عن قتادة السدوسي رحمه الله أنه قال : " كنّا نُحدث أنهم كانوا - أي أهل الكهف - من بني الركنا - وذكروا أن الركنا ملوك الروم - رزقهم الله الإسلام فتفرّدوا بدينهم واعتزلوا قومهم حتى انتهوا إلى الكهف فضرب الله على أصمختهم فلبثوا دهراً طويلاً حتى هلكت أمتهم وجاءت أمّةٌ مسلمة بعدهم وكان ملكهم - أي بعد ذلك - مسلماً " وبهذا الأثر تتجلى لنا الحكمة في رعاية الله لهؤلاء الفتية الذين فروا بدينهم من القهر والظلم ومن الوثنية التي عاشها أقوامهم فحفظهم الله جل وعلا وأذهب الله الظالمين وأنشأ قوماً آخرين ، ولذا لما استيقضوا لم يشعروا بنومهم الطويل فقال قائل منهم : " كم لبثتم ؟ " فظن بعضهم أنهم لم يلبثوا إلا مدة يسيرة فقالوا : ( لبثنا يوماً أو بعض يوم ) فقالوا : ( ربكم أعلم بما لبثتم ) فأرسلوا رجلاً منهم يأتي لهم بطعام طيب من كسبٍ مباح بنقود فضية كانت معهم وليكن متلطفاً ولا يُشعر الناس بمكانهم فلما ذهب إلى تلك المدينة وقيل اسمها " أفسوس " كما ورد عند ابن جرير فلما رأى البائع النقود قال من أين لك هذه النقود ؟ هذه على عهد الملك الجبار دقيانوس فكُشف أمرهم وانتشر خبرهم في المدينة وفي ذلك يقول الله جل وعلا : ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حقٌ وأن الساعة لاريب فيها ) فأبان الله قدرته لمن يمتري ويشك في البعث وإحياء الموتى في ذلك الزمان وقصّ الله علينا خبرهم من أجل الذكرى والموعظة وتلك من أعاجيب القصص التي تتجلى فيها قدرة الله على كل شيء فأين المعتبرون والمتفكرون وأهل الألباب من كلام رب الأرباب الذي فيه دلالة الحيران وزيادة للعبد في التُقوى والإيمان
بارك الله ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الإيمان والحكمة أقول ماتسمعون وأستغفر الله ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
============== الخطبة الثانية ===============
الحمدلله الذي أبان لعباده سبل الهدى وحذّرهم من سبل الغواية والردى والصلاة والسلام على النبي المصطفى المجتبى وعلى آله وصحبه الذين أرغم الله بهم العدا وعلى من تبعهم بإحسانٍ وبهم اقتدى أما بعد :
اتخاذ القبور مساجد – ياعباد الله - أمرٌ حذّر الله منه ورسوله ومقت سبحانه من يفعل ذلك ولا يأتي ذلك إلا بتتبع آثار الصالحين ولذا لما هلك أهل الكهف اتخذ أصحاب القوة والنفوذ عليهم مسجداً ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من الغلو في الدين وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم وممن حذّر من ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعن المَعرُور بن سُويد الأسدي قال : " وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلمّا انصرف إلى المدينة وانصرفت معه صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : " ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " و " لإيلاف قريش " ثمّ رأى أناساً يذهبون مذهباً - أي طريقاً - فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجداً هاهنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنما أُهلك من كان قبلكم بأشباه هذه ! يتّبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائسَ وبِيعاً ، ومن أدركته الصلاة في شيءٍ من هذه المساجد التي صلّى فيها رسول الله فليصل فيها ولايتعَمَّدْنَها " أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي في مشكل الآثار وهذا أثر صحح اسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى .
عباد الله : هناك فئة ممن يرى استباحة هذا الفعل - أي جواز اتخاذ القبور مساجد – يثيرون هذه الشبهة لدى العامّة من الناس ويستدلون بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي وهذا ضلال منهم وسوء فهم ، ومن المعلوم أن قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجرة عائشة رضي الله عنها ، ولم يكُ في المسجد أصلاً ولم يبنَ عليه المسجد ، فلما كانت التوسعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سبعين عاماً في عهد الوليد بن عبدالملك أمر واليه على المدينة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله في عام ثمانيةٍ وثمانين من الهجرة أمره أن يهدم المسجد ويضيفُ إليه حُجَرُ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فجمع عمر بن عبدالعزيز وجوه الناس والفقهاء فشقّ عليهم ذلك وقالوا : تركها على ذلك أدعى للعبرة ، وشق على بعض التابعين ومنهم سعيد بن المسيّب ذلك الأمر فكتب عمر بن عبدالعزيز بذلك للوليد فأمره أمراً صارماً بتنفيذ ماأمر فكان لابد لعمر بن عبدالعزيز رحمه الله من الطاعة خوفاً من الفتنة ودرءاً لفرقة المسلمين ، مع أن قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح واضحٌ جليٌّ في هذا الشأن : " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . . ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه